محمد أبوالفضل يكتب:
تحصين السودان إلا قليلا
حصل السودان على ما أراده من واشنطن، فخلال أسبوع واحد جرى رفع اسمه من لائحة الإرهاب الأميركية، وتم منحه حصانة قانونية تضمن عدم ملاحقة حكومته من قبل أفراد في الولايات المتحدة في قضايا إرهاب، باستثناء ضحايا تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، وهو ما يعني أن الأهداف السودانية المعلنة تحققت إلا قليلا.
قد يكون هذا القليل لا قيمة له أو ضئيلا في نظر البعض، مقارنة بما تم تجاوزه من عقبات كبيرة، ومزايا اقتصادية وسياسية عديدة سوف يحصل عليها السودان من وراء خروجه من القائمة الأميركية البغيضة.
لكن هذا القليل يمكن أن يتحول إلى أزمة إذا صدرت أحكام قضائية تقضي بتعويضات باهظة لصالح أسر الضحايا، أو إذا جرى تحويله إلى ورقة لممارسة ضغوط على الخرطوم، فلا يزال مشوار تطوير العلاقات بين الولايات المتحدة تقف أمامه عراقيل مختلفة ليصل إلى محطة مستقرة.
قبل هذه الخطوة، تبنى الكونغرس الأميركي قانونا لحماية الحكومة المدنية والتحول الديمقراطي في السودان، مستهدفا تقويض نفوذ الجيش بشكل أساسي، وهي ورقة أخرى تضاعف إلى جملة أوراق خفية تستثمرها الولايات المتحدة لتعزيز نفوذها والدفاع عن مصالحها بالطريقة التي تراها مناسبة. فالسودان ينتظره مستقبل واعد، ومغرٍ لقوى إقليمية ودولية تتطلع إلى تطوير العلاقات معه.
تدرك الطبقة السياسية في السودان أهمية الخروج من عنق لائحة الإرهاب الآن، حيث تعني أن البلاد صارت عضوا لا غبار عليه في المجتمع الدولي، بكل ما تحمله هذه العضوية من مكاسب مادية ومعنوية، تبدأ من فتح الطريق لتدفق الاستثمارات الأجنبية وما تنطوي عليه من قيمة في تخفيف حدة التدهور الاقتصادي، وحتى تعزيز الصورة الذهنية لدولة جذابة في مرحلة ما بعد نظام البشير وقطع الصلة بكل روافده القاتمة.
جاء وضع السودان على لائحة الإرهاب كرد فعل على سياسات النظام السابق التي ورطت الدولة في أزمات معقدة، كانت في غنى عنها، ولذلك يوحي الخروج منها بعدم وجود صلة بأي تصورات غامضة، وأن مرحلة جديدة بدأت، ويستطيع السودان التعامل معها وفقا لأدبياتها المعاصرة، ما يفرض عليه المزيد من الخطوات باتجاه تجفيف المنابع التي أدت إلى وصوله لهذا المربع.
يمثل التحصين الذي حصل عليه السودان من إدارة الرئيس دونالد ترامب قبل رحيلها، سيفا مسلطا على رقبة مجلس السيادة والحكومة الانتقاليين، لأن هناك مخاوف من ارتدادات يمكن أن يقوم بها فلول نظام البشير تزعج الترتيبات الراهنة، وهناك استحقاقات سياسية لم تنجز بعد ومطلوب الوفاء بها وكانت وثيقة الصلة بالصفقة التي أدت إلى تعامل واشنطن بإيجابية مع الخرطوم، وهناك أهداف تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقها في المنطقة، ومتوقع أن يكون السودان ضلعا أساسيا فيها.
لا تزال ثمة هواجس من استغلال فلول البشير للأزمات المتراكمة التي يموج بها السودان، وحالة عدم اطمئنان للخطوات التي اتخذت حتى الآن حيال الجماعات المتطرفة وقياداتها التي تمركزت سنوات طويلة في البلاد.
نعم جرت مصادرة أموال وعقارات وشركات تابعة لقوى إسلامية، وتم سحب الجنسيات من مئات حصلوا عليها خلال حكم البشير، لكن التحركات التي اتخذت في الملف الذي تشتغل عليه لجنة إزالة التمكين محل شكوك من قبل قوى سياسية متعددة، ويتطلب المزيد من السرعة خوفا من أن يتحول إلى قنبلة موقوتة.
أصبح السودان على موعد للوفاء بمكونات صفقة ليست سرية، قامت على ربط التطبيع مع إسرائيل برفع اسمه من لائحة الإرهاب وتوفير الحصانة القانونية لعدم الملاحقة مستقبلا، وأوفت الإدارة الأميركية بالجزء الكبير من الصفقة إلا قليلا.
وهو ما يشير إلى أن الخرطوم مطالبة بالموافقة على الإعلان الرسمي لتطبيع العلاقات مع إسرائيل التي لعبت دورا مهما في تجاوز المطبات التي وضعها الكونغرس في طريق السودان، وتتمنى حصد الثمار قبل مغادرة الرئيس ترامب البيت الأبيض في العشرين من يناير المقبل.
تنتظر واشنطن الحصول على النتيجة المتوقعة لكل ما جادت به من كرم حاتمي مؤخرا، وأهمها التيقن من أن الخرطوم باتت حليفا وفيا لها في المنطقة، ما يتطلب أدلة ثبوتية، في مقدمتها تفكيك الروابط العسكرية الصاعدة مع روسيا التي كشفت مؤخرا عن اتفاق للحصول على مركز دعم لوجيستي في بورتسودان، ليتحول إلى نواة لقاعدة بحرية روسية في البحر الأحمر لاحقا، بما يمثل تهديدا استراتيجيا لمصالح الولايات المتحدة، ويخل بتوازنات كبيرة في المنطقة.
تبدو الحسابات الأميركية واضحة بالنسبة للسودان الذي استوعب دروس الماضي، ولم يعد قادرا على منح مزايا مجانية لأحد، فلغة الصفقات المتبادلة غير خافية على كثيرين، وظهرت في خطاب مسؤولين كبار بلا مواربة، ومرجح أن تتزايد ملامحها في أدبيات رسمية يريد أصحابها الاحتفاظ بمكان لهم لرسم خريطة السودان مستقبلا.
كما أن الرهان على جهة واحدة يمكن أن يختفي من القاموس السياسي، ففي ظل تعدد اللاعبين وتنوع الراغبين في توثيق العلاقات مع الخرطوم، والخوف من التقلبات الإقليمية المتسارعة، والتحولات اللافتة في المعادلات الدولية، يصعب التعويل على جهة واحدة، إذا تغيرت تقديراتها تتغير الأوضاع في السودان.
وهذه الصفة من المعالم الصاعدة في مفهوم بعض القوى للتفاعلات، فكل دولة تحرص على تشبيك علاقاتها مع دول في الغرب والشرق، والشمال والجنوب، والسودان يطمح إلى صيغة توفر له مساحة جيدة للحركة، كي لا يضع رقبته تحت مقصلة دولة بعينها.
ضاعفت الحصانة القانونية المنقوصة من هذا التوجه، فلا يريد السودان أن يجد نفسه مرة أخرى تحت سيف عقوبات أو تعويضات تعجيزية لأسر ضحايا الحادي عشر من سبتمبر. وسوف تثبت الأيام المقبلة أن الولايات المتحدة أمام دولة مستوعبة لما يجري حولها من تغيرات، وبها طبقة عسكرية وسياسية تخلت عن إدمان الفشل الذي لازم نخبتها السابقة فترات طويلة، وغير مستعدة للقبول بسيادة كاملة إلا قليلا.