محمد أبوالفضل يكتب:

تظاهرات الكونغرس.. وتظاهرات الإخوان في مصر

استدعى مشهد حصار مقر الكونغرس الأميركي من قبل أنصار الرئيس دونالد ترامب، تنشيط ذاكرة الكثير من المصريين، لأنهم رأوا جانبا منه منذ حوالي ثمانية أعوام، عندما حاصر أنصار الرئيس الإخواني الراحل محمد مرسي مقرّ المحكمة الدستورية، في إشارة رافضة إلى قرارات قضاتها التي تمسّ بالجماعة ورئيسها.

ربّما يكون بسطاء المصريين أشدّ الناس سعادة بمشهد الكونغرس ومقاطعه وتفاصيله الجذابة، لأن الإبداع السياسي لدى بعضهم استبق ما حدث في واشنطن، وعاشوا لحظات تعيسة متقاربة، وقت أن تجمع الآلاف من أتباع الإخوان أمام المحكمة الدستورية في القاهرة، ورفعوا شعارات مؤيدة للتمكين السياسي إلى أبعد مدى ممكن.

رغم الفارق الشاسع في الزمان والمكان، غير أن الدلالة النهائية ربما تكون متشابهة، ففي المحصّلة علقت بالذاكرة فكرة قيام أنصار رئيس بحصار مؤسسة تحتل قداسة معنوية وسياسية لدى عموم المصريين، وجرت محاولة متعمدة للنيل من هيبتها جريا وراء رغبة جماعة راودها حلم الاستمرار في الحكم لأطول فترة وبأي وسيلة.

في مفارقة نادرة، أثلج الحادث الأميركي قلوب المعارضين الإسلاميين، كما أزاح حملا ثقيلا عن صدر مؤيدي النظام المصري، وبدا تصرف الفريق الأول سباقا عندما توهم من داروا في فلكه أن حصار وتطويق مبنى يمثل شوكة في ظهر القوى التي رفضت استكمال الرئيس الإخواني مدته القانونية، فنصبوا خيامهم أمام أكبر وأهم محكمة بمصر أياما عدة كدليل على التمسك به.

وقتها تهكّم مصريون كثيرون على الواقعة الفريدة والغريبة وعديمة الجدوى، وعدّت في حينه خرقا للمنطق، وبعد حادث الكونغرس الأميركي يبدو أن من حاصروا المحكمة الدستورية رُدّ إليهم شيء من الاعتبار، بأثر رجعي، فلأول مرة يتفوقون على الأميركيين في الخيال السياسي، أو ربما أن فكرة الحصار نفسها جاءتهم من وحي الولايات المتحدة، فالجماعة كانت وثيقة الصلة بالإدارة الأميركية آنذاك.

حظيت تظاهرات المحكمة الدستورية المصرية برعاية واشنطن، وتردد أنها من صميم الحقوق الرئيسية لأي جماعة سياسية، وتعرضت القوى الرافضة لاتهامات عديدة، حيث تقف عائقا أمام الحق في التظاهر، بصرف النظر عن المكان، وهو ما انقلب إلى نقمة في حالة حصار الكونغرس، وبات تصرفا غوغائيا ومحل إدانة أميركية.

وقتها كان الرئيس الديمقراطي باراك أوباما سيّد البيت الأبيض، ما جعل بعض الخبثاء يهمسون بأن الرئيس الجمهوري دونالد ترامب سقط في فخ جاءه من دوائر معادية له، تريد أن يكون سقوطه مدويا قبيل انتهاء فترة ولايته، فحصار المحكمة الدستورية في مصر لا يزال دليلا على عدم صلاحية الرئيس الإخواني.

مع أن الفرق كبير بين الحادثين المصري والأميركي، لكن المعاني والمضامين والخبرات لدى البشر لا تختلف كثيرا ولو جاءت بالصدفة، ومن دفعوا نحو الحصارين لهم أهداف سياسية متباينة، لكن من أقدموا عليهما اعتقدوا أن بإمكانهم التحكم في مفاصل قرارات مصيرية، أو تغيير الدفة بما لا تشتهي السفن.

أنعش حادث الكونغرس عقول مؤيدي النظام الحاكم في مصر، وتهكموا على الطريقة التي تعامل بها الجهاز الأمني في واشنطن، بدءا من اتهامه بالتراخي في مواجهة الحصار وحتى طريقة فض الاعتصام، مرورا بوفاة أربعة من المتظاهرين والمتظاهرات، وهو عدد لو سقط في القاهرة لكانت له عواقب وخيمة، وغرد إعلاميون مصريون طربا بالحصار، على طريقة “لا أحد أفضل من أحد”.

ازداد الأمر تهكّما مع استخدام الشرطة الأميركية الهراوات والغازات المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين، وهي من الأدوات الشهيرة التي استخدمت في مصر، ولقيت اعتراضات حادة من جانب إدارة الرئيس أوباما، وبدأ مصريون يسخرون من اللجوء إليها في الولايات المتحدة، كدولة تتزعم العالم الديمقراطي في العالم.

بالطبع لا أحد يقلل من المنظومة الديمقراطية الراسخة هناك، ولا أحد يقارنها بما جرى ويجري في مصر، لكن تكرار مظاهر معروفة في العالم الثالث داخل واشنطن، جعل بعض المواطنين يخففون من انتقاداتهم لحالهم السياسي وشكاواهم من أحوالهم المعيشية، فالدولة النموذج في العالم لا تختلف كثيرا عن مصر في طريقة التظاهر، والتعاطي مع المتظاهرين، مع اختلاف في الخبرة والحنكة وهي تصب لصالح مصر.

وجد مؤيدو النظام فرصة أخرى لإقناع المواطنين أن أجهزة الدولة في مصر لم تكن مخطئة عندما تصدّت لأنصار الإخوان أمام المحكمة وغيرها، ومنعت خروج تظاهرات في الشوارع، إلّا تحت ضوابط قاسية، فالنتيجة يمكن أن تصبح غير محمودة العواقب، في ظل فوضى عدم نضج التجربة المصرية، وأمامكم الهزة أو الخطيئة التي تعرضت لها الولايات المتحدة، فقد تضع على كاهلها أعباء سياسية ثقيلة.

بدت واقعة الكونغرس أكبر من حدث أميركي، لأن تداعياتها تفوق ما أراده أنصار ترامب في أحقيته بالنجاح في الانتخابات، وتنثر عقبات جمّة على جانبي طريق الإدارة الجديدة برئاسة جو بايدن، الذي كان يعتزم أن يكون ملف الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان في مقدمة أولوياته، وفتحت للدول المستهدفة في هذا الملف مجالا للنيل من المصداقية الأميركية التي أصبحت بحاجة إلى تصويب مسارها الداخلي.

انتهى حصار المحكمة الدستورية في القاهرة بسلام، ورحل الرئيس مرسي عن السلطة والدنيا بأثرها، وبقي عالقا في أذهان المصريين أن جماعة سياسية متهوّرة لجأت إلى كل الوسائل غير المشروعة للبقاء في السلطة، على الرغم من لفظ الشعب لها ولرئيسها، وجمع ملايين التوقيعات التي تثبت رفض استمراره.

يبدو حال ترامب أشدّ بؤسا، فالرجل سقط في سباق انتخابي واضح، ولم يسقط عبر استفتاء شعبي ضمني، كما الحال بالنسبة إلى مرسي، لذلك سوف تلاحقه لعنة حصار الكونغرس، والتجرؤ على قدس أقداس الولايات المتحدة والحط من هيبته السياسية، وهو ما يفرض إعادة النظر في الكثير من المسلمات داخل الولايات المتحدة وخارجها في مسائل الحريات ومفهومها الذي أدخلت عليه تعديلات في الآونة الأخيرة.

تتكاتف تظاهرات الكونغرس مع تقديرات سابقة أفرزتها تظاهرات السود في الولايات المتحدة، والقمصان الصفراء في فرنسا، حيال المعنى الدقيق لحقوق الإنسان، الأمر الذي تجد فيه مصر وغيرها فرصة لطرح مسألة إعادة التقييم على نطاق واسع.

ويستدعي ذلك من البعض مراعاة جوانب في الخصوصية المحلية، وعدم تطبيق مقياس واحد على جميع الدول، وقد يحمل هذا الباب وجاهة قانونية، شريطة عدم التخلي عن المبادئ الأساسية لفكرة الحريات. فمن تظاهرات المحكمة الدستورية في القاهرة إلى تظاهرات الكونغرس في واشنطن جرت الكثير من المياه السياسية.