محمد أبوالفضل يكتب:
جماعة "بن لكن" تظهر في الإدارة الأميركية
جماعة “بن لكن” أو نعم ولكن، مصطلح ذاع صيته في بعض الأدبيات الصحافية العربية بعد تدمير برجي التجارة العالميين في نيويورك منذ حوالي عقدين لوصف رد فعل بعض النخب السياسية كدليل على التأني واستيعاب التطورات الصادمة أو الميوعة وعدم القدرة على تبني موقف محدد، والعبارة مستمدة من اسم زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن والتي نفذ أعضاؤها هجمات سبتمبر الشهيرة.
تذكرت هذا المصطلح الذي أصبح ظاهرا الآن في أداء الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن، فقد أثبتت جملة التحركات خلال الشهر الأول من عمرها صعوبة حسم الأمور، ووجود رغبة في ترك بعضها مفتوحا، ولا أعلم هل هي إشارة على التأني أم مرونة مطلوبة في بداية عملها عقب إدارة خلفت وراءها مجموعة من الأزمات.
أبدت واشنطن عزمها على تقويض أذرع إيران في المنطقة ومنعها من امتلاك سلاح نووي مصحوبا بإصرار على العودة إلى صيغة الاتفاق النووي السابق وأظهرت اعترافا بأهمية السعودية الإستراتيجية، غير أن تلميحات صدرت من مسؤولين أميركيين أشارت إلى وجود أزمة في العلاقة معها ورغبة في فتح ملفات محرجة.
ولأن بايدن يحاول إصلاح ما أفسدته إدارة ترامب على أصعدة مختلفة، من وجهة نظره، ستكون إدارته مضطرة إلى عدم مبارحة أسلوب "نعم ولكن"
وافقت الإدارة الأميركية على صفقة أسلحة جديدة لمصر بقيمة 197 مليون دولار، واعترفت بأهمية القاهرة كشريك معتبر لها في المنطقة، وأبدت انزعاجا من ملفها في مجال حقوق الإنسان، ووعدت بعدم التهاون في تفاصيله القاتمة، ما يعني توقع حدوث توتر بينهما في ظل تباعد المسافات.
كذلك الحال بالنسبة إلى إثيوبيا، حيث أنهى بايدن تجميد قرار اتخذه الرئيس السابق دونالد ترامب بحجب مساعدات بنحو 300 مليون دولار للضغط على حكومتها لحل أزمة سد النهضة مع مصر، وربط بايدن التقدم في العلاقات مع أديس أبابا بحجم التطور الإيجابي في أزمة تيغراي الداخلية، وهي تندرج ضمن الأزمات المعقدة في المنطقة ويتداخل فيها السياسي مع الأمني والإنساني.
يبدو مصطلح جماعة “بن لكن” معبرا عن حالة الإدارة الأميركية الراهنة، سواء في معناه الإيجابي أو السلبي، فمن الطبيعي أن يعيد جو بايدن النظر في كثير من الملفات ويكّون رؤية كاملة عنها ولا يتخذ قرارا عاجلا لأن عددا كبيرا منها تتداخل فيه المصالح الأميركية مع القيم التي جاء الحزب الديمقراطي ليعيد الحياة إليها.
من الطبيعي أيضا أن يبدو البيت الأبيض عاجزا عن تبني مواقف محددة في قضايا مصيرية قد يكون الخطأ فيها مكلفا، فإدارة بايدن مدركة أنها مطالبة بالعمل على المستويين الداخلي والخارجي بكفاءة، وأي خطأ لن يغتفر وربما يكبدها خسائر فادحة، ولجأت إلى العمل بعبارة لها جذور عربية، فلا أحد كان يتخيل أصلا أن يقوم أتباع ترامب بالهجوم على الكونغرس في يناير الماضي بما يشبه مشاهد عربية رأيناها.
لا يتوقع كثيرون أن يكون بايدن حاسما في عديد من القضايا الخارجية قبل أن يحكم القبض على دفة الأمور فيها وتسترد فكرة المؤسسة العميقة عافيتها في الإدارة الحالية
لم يثبت بايدن، حتى الآن، أنه جاء ولديه قراءة وافية للمشكلات التي تواجهها الولايات المتحدة أو رؤية يستطيع تطبيقها فورا، مع أن المهلة الممنوحة لأيّ إدارة أميركية جديدة تصل إلى نحو ثلاثة أشهر كانت كافية للاطلاع وتحديد الأولويات.
قد يقول البعض إن الظروف التي مر بها الرجل بدءا من التشكيك في الانتخابات وحتى تنصيبه غير عادية وحفلت بمناوشات سياسية وقضائية مع ترامب وجماعته، ما يتطلب وقتا مضاعفا لدراسة وفهم القضايا، خاصة أن غالبيتها من النوع الشائك، وأي قرار يمكن أن تكون له تداعيات وخيمة ما لم يتم التوفيق بين المصالح والمبادئ.
ميزة أو سمة ترامب أنه كان واضحا إلى حد بعيد في انحيازه لفكرة المصالح، وبصرف النظر عن القبول أو الرفض لهذه الطريقة النمطية، فهي في النهاية عبرت عن إدارة شعبوية رفعت شعار “أميركا أولا” وحاولت تطبيقه، ولو بالتفريط في منظومة قيم يتمسك بها قطاع من الأميركيين، وأدت إلى وضع الرجل في مواجهة معهم.
لم يلغ رفض هؤلاء له ولإدارته حصوله في الانتخابات الماضية أمام منافسه بايدن على أكثر من 70 مليون صوت، محققا ثاني أكبر حصيلة للأصوات الانتخابية في التاريخ الأميركي، بما يزيد عن 47 في المئة من الأصوات على المستوى الوطني.
معضلة بايدن أنه يريد التوفيق بين منظومتي المصالح والقيم، وبين الداخل والخارج، وبين تماسك بلاده وقدرتها على قيادة العالم، وبين العزوف عن المشكلات والأزمات الممتدة وبين ضرورات الانخراط فيها، وهناك سلسلة طويلة من التناقضات يحتاج فك شفراتها وقتا طويلا، فقد أصيبت المؤسسات الأميركية بشلل كبير في عهد ترامب.
لا يتوقع كثيرون أن يكون بايدن حاسما في عديد من القضايا الخارجية قبل أن يحكم القبض على دفة الأمور فيها وتسترد فكرة المؤسسة العميقة عافيتها في الإدارة الحالية ما يعرضه لفترة ما إلى استقطاب حاد بين من يعولون عليه لضبط الأمور وفقا للبرنامج الانتخابي الذي جاء بموجبه، وبين من يشدونه إلى الخلف لتعطيله من الجمهوريين، ولن يجد صيغة مناسبة على المدى المنظور أفضل من “نعم ولكن”.
تكمن الأزمة الحقيقية في أن بايدن جاء إلى البيت الأبيض ومعه طاقم عمل عدد كبير منه ينحدر من إدارة باراك أوباما، ويريد هؤلاء تطبيق الكثير من الرؤى السابقة في وقت حدثت متغيرات إقليمية ودولية قللت، وربما، عصفت بأجزاء كبيرة منها، وهو سبب آخر يستدعي السير على منهج جماعة “نعم ولكن”.
أبدت واشنطن عزمها على تقويض أذرع إيران في المنطقة ومنعها من امتلاك سلاح نووي مصحوبا بإصرار على العودة إلى صيغة الاتفاق النووي السابق وأظهرت اعترافا بأهمية السعودية الإستراتيجية
يضع التوغل في هذا المنهج عبئا ثقيلا على الإدارة الأميركية ويمنع تمكنها سريعا من تبني مواقف صارمة، بل يمنح من تستهدفهم واشنطن أو تريد ضبط بوصلتها معهم فرصة لترتيب أوراقهم والضغط عليها قبل أن تشرع هي في العمل برؤية حازمة في مسألتي نعم أو لا بصراحة، ومن دون لكن المعطلة دائما.
ولأن بايدن يحاول إصلاح ما أفسدته إدارة ترامب على أصعدة مختلفة، من وجهة نظره، ستكون إدارته مضطرة إلى عدم مبارحة أسلوب “نعم ولكن”، باعتباره وصفة مضمونة في عدم تكبد خسائر قد لا تستطيع تحملها في الفترة الأولى لها.
تنعكس هذه الطريقة في النهاية على صورة الولايات المتحدة التي تعتزم إدارة بايدن استعادة هيبتها عالميا، حيث فقدت جوانب كثيرة منها مؤخرا بحكم تراجع دورها المحوري وتقدم وفاعلية أدوار قوى أخرى وزيادة الصراعات والنزاعات، وكلها ملامح تجعل من جماعة “بن لكن” في الإدارة الأميركية في مرمى نيران كثيفة.