محمد أبوالفضل يكتب:

ضبط إدارة المرافق الحيوية في الدولة المصرية

يقول لي صديقي دائما إن المشروعات التنموية الكبيرة التي تمتد على طول وعرض مصر يمكن أن تتكسر على صخرة البيروقراطية العتيدة والمركزية الشديدة في إدارة المرافق الحيوية. وما يتم إنجازه الآن يركز على الحجر أكثر من البشر. لذلك سوف تتأثر طريقة الإدارة بقلة الكفاءات، فما يتوافر على السطح حاليا لا يتواءم مع حجم الطموحات المرتفعة.

تزامن هذا الكلام مع بعض الأحداث التي تؤكد الكفاءة وعدمها. فالمصريون الذين أبهروا العالم بحفل نقل المومياوات الملكية السبت ونجحوا في التعامل مع تعويم سفينة الحاويات العملاقة “إيفر غيفن” التي سدت مجرى قناة السويس، هم أيضا الذين تسبب إهمال بعضهم في كارثة اصطدام قطارين ووقوع العشرات من الضحايا، ومسؤولون عن استمرار مسلسل تهاوي البنايات المرتفعة على رؤوس السكان.

أصبح الجمهور يلجأ في حل مشكلاته وتحسين مستوى المرافق إلى الضغط من خلال وسائل التواصل الاجتماعي لتتحول إلى قضية رأي عام تلفت انتباه رئيس الجمهورية

قد يحتار البعض في حل لغز الكفاءة وانعدامها بمصر في وقت واحد. ويحتارون أكثر عندما يجدون البيئة الواحدة تفرز المتفوقين والفاشلين. وهو أمر طبيعي في كل الدول، غير أن الفرق بين دولة وأخرى معيار الاختيار ومكانه. فالمجتمعات المتقدمة تلتقط المتفوقين لتسند إليهم المهام التي تحتاج إلى كفاءات، بينما في بعض القطاعات المصرية يحدث العكس، عملا بقاعدة أهل الثقة قبل أهل الكفاءة.

أدى العمل بهذه القاعدة في عصور سابقة إلى تخريب مؤسسات حيوية عديدة. ويعتمد النظام المصري على أداتي الانضباط والكفاءة في إدارة المشروعات. والتوسع في الاعتماد على العسكريين والمهنيين عند القمة، بجانب معاهد تأهيل الشباب والكوادر التي توسعت وشملت مجالات مختلفة، أملا في إصلاح قيادات مرافق الدولة.

يبدو هذا الاتجاه جيدا في القيادة لسد الفجوة التقليدية، لكنه يصعب أن يحقق النتيجة المرجوة، فالطريقة التي يعتمد عليها انتقائية وتأخذ في اعتبارها الأولوية لحسن السير والسلوك من الناحيتين الأمنية والسياسية في غالبية المهام الموكلة لأصحابها.

المصريون نجحوا في التعامل مع تعويم سفينة الحاويات العملاقة “إيفر غيفن” التي سدت مجرى قناة السويس

تقتصر هذه الطريقة على المؤيدين المخلصين للنظام الحاكم والموثوق في ولائهم والمرفوض امتلاكهم لميول معارضة، ما منح فرصة للمتسلقين وأبعد الموهوبين. كما أنها تغض الطرف عن القاعدة العريضة في القاع الإداري المنوط به مهمة التنفيذ.

تحرم هذه الطريقة الدولة من بعض العوائد الإيجابية، إذ تبعد عنها كفاءات وعقولا مبتكرة تحتاج إلى قدر من الحرية في التفكير، وتقدم للمجتمع نماذج معلبة. فالأحزاب المؤيدة يتم تفصيلها وفقا لمقاسات سياسية معينة، والمعارضون ترسم لهم دروب المعارضة داخل البرلمان وخارجه، وهذا كفيل ليخرج للمجتمع قيادات عقيمة.

تقوم الحكومة بالتوسع في إدخال التكنولوجيا الرقمية، وتوفر إمكانيات كبيرة لها وتقدم برامج متباينة، ولا تخلص في تأهيل الشريحة التي تتعامل مع هذا النمط من التطور، والذي يحتاج إلى توفير أجواء مناسبة وفي سن مبكرة لإعداد الشخصية.

عندما قررت الحكومة تطبيق نظام الامتحانات من خلال جهاز “التابلت” في الصف الأول الثانوي الشهر الماضي لتثبت أنها حكومة رقمية بامتياز سقطت شبكة الإنترنت أمام الطلاب ولم يتمكنوا من أداء الامتحان.

تمثل هذه النوعية من الأحداث الصغيرة دليلا بشأن عدم القدرة على تعميم التكنولوجيا، ومحاولة الحصول على نتيجة ملموسة من دون توافر الخطوات اللازمة، وتعبر في عمقها عن عطب أصاب الجهاز الإداري بسبب إدمان التركيز على الشكل.

في حادث تصادم القطارين والامتحانات ركز المسؤولون على الأخذ بزمام مظاهر التكنولوجيا، وتجاهلوا البيئة التي تعمل فيها ومن يقومون باستخدامها وإيجاد أسلوب عمل يتناسب مع المعطيات التي يحتاجها هذا التطور.

يدخل المواطن المصري مصلحة حكومية ويجد أمامه شاشات الكمبيوتر منتشرة أمام الموظفين، فقد بهره الحديث المتواتر عن التقدم الحضاري في الجهاز الإداري، ولا يجد تغييرا في الدور الوظيفي، حيث تحوّل نظام العمل من يدوي إلى تكنولوجي، والشخص نفسه لم يتغير تفكيره في الحالتين فتأتي النتيجة كارثية.

يمكن مد الخيط على استقامته في غالبية المرافق والمصالح الخدمية المصرية، ما يجعل نظام العمل لا يسير بالطريقة التي تريدها الحكومة، وتتكرر الأزمات. فيبدو الإعلام مثلا أقل من طموحات الحكومة في المحكات الرئيسية ولا يواكب التحديات الإقليمية أو يعكس الصورة التي تتناسب مع التوجهات الاستراتيجية للدولة المصرية، لأن من يتولون الدفة التنفيذية لا يدركون عظم المسؤولية.

تفوقت البيروقراطية على نفسها في مصر وقضت على روح المبادرة في الكثير من القطاعات الوظيفية، فكي يتجنب الناس الوقوع في الخطأ وتحمل المسؤولية لجأوا إلى السلبية، فإذا صدر قرار ثبت عدم جدواه من شخص ورحل عن موقعه من الصعوبة أن يأتي من يصوبه، ولو انتفت الأسباب التي أدت إلى اتخاذه.

أتذكر أن وزير النقل الفريق كامل الوزير عندما تولى مهام منصبه منذ حوالي عامين وجد نفقا مغلقا، اسمه نفق أحمد حلمي، في محطة رمسيس الشهيرة للقطارات بوسط القاهرة، ما أدى إلى تكدس المواطنين، فسأل عمن أغلقه ولماذا، فقيل له أغلق منذ ثورة 25 يناير 2011 لمنع انتقال المتظاهرين ولا أحد يعرف من أغلقه.

أمر الرجل على الفور بفتح النفق، مع أنه جاء قبله أكثر من وزير للنقل ولم يجرؤ أحدهم على اتخاذ مثل هذا القرار، على الرغم من جدواه في تسهيل حركة انتقال الركاب بين الضفتين، بل لم يعبأ أحدهم بالسؤال عمّن أغلقه أصلا.

تؤكد هذه الواقعة أنّ من اتخذ قرارا خاطئا عليه إصلاحه، وأن طبيعة الشخص تضفي على المكان هيبة وليس العكس، ولأن وزير النقل قيادة عسكرية سابقة وعلاقته وثيقة بالرئيس عبدالفتاح السيسي لم يتردد في قرار فتح النفق ولم يعبأ بمعرفة من أغلقه.

قد يحتار البعض في حل لغز الكفاءة وانعدامها بمصر في وقت واحد. ويحتارون أكثر عندما يجدون البيئة الواحدة تفرز المتفوقين والفاشلين

يوجد في مصر عدد كبير من القرارات الخاطئة تحتاج إلى تصويب مساراتها من قياداتها، الأمر الذي لا يحدث إلا إذا كانت هذه القيادة قوية، ولا علاقة لذلك بالمنصب أو بكونها عسكرية أم مدنية، فالقوة المعنوية والمادية مستمدة من عوامل كثيرة.

أصبح الجمهور يلجأ في حل مشكلاته وتحسين مستوى المرافق إلى الضغط من خلال وسائل التواصل الاجتماعي لتتحول إلى قضية رأي عام تلفت انتباه رئيس الجمهورية، والذي بات المنقذ والملاذ لحل أزمات الكثير من المواطنين.

ترتاح بعض القيادات لهذا النمط من الإدارة، لأنه يعفيها من المسؤولية ويبعد عنها شبح المحاسبة، ولا تدرك أنه يعوق تطور الجهاز الإداري ويؤثر سلبا على نجاح الكثير من المشروعات القومية التي تحتاج إلى عقول منفتحة قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية بعيدة عن البيروقراطية التي صارت موطنا للفساد والإهمال والانسداد. بالتالي فالضبط الشامل لدولاب الدولة ومرافقها أول خطوات التطوير الحقيقي.