ماريا معلوف تكتب:
الحرب الباردة.. بين الغرب وأمريكا وروسيا
لاشك أن الساعات الماضية كانت أقل وطأة على المراقبين لأحداث التطورات بين روسيا وأوكرانيا مما حملته الأيام القليلة الماضية.
التي تقاطعت مع عقوبات أمريكية على روسيا ومباركة غربية للموقف الأمريكي.. فقد أمرت روسيا بعودة القوات لقواعدها من منطقة قرب الحدود مع أوكرانيا، فيما يبدو أنه وضع نهاية لحشد عسكري شمل عشرات الآلاف من الجنود.
ذلك أنه في وقت سابق كانت واشنطن قد عبّرت عن مخاوف من تصعيد عسكري، مشيرة إلى أن موسكو قد تُعدّ ذريعة لدخول أوكرانيا كما حدث عام 2014 عندما ضمت شبه جزيرة القرم.. في هذا الوقت انقسمت آراء المعلقين في واشنطن بشأن أهمية أوكرانيا للمصالح الأمريكية العليا وهو ما سأتناوله في نقاط لاحقة.
بالنسبة لأزمة أوكرانيا تزعم الرواية الروسية أن الرئيس الأوكراني زيلينسكي أشعل الأزمة قبل شهر بتوقيع مرسوم يجعل استعادة أراضي القرم التي ضمّتها روسيا سياسة رسمية للدولة الأوكرانية، كما ناشد زيلينسكي الولايات المتحدة وأوروبا تسريع عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي الذي لطالما وصفته روسيا بأنه "خط أحمر" من شأنه أن يؤدي إلى الحرب.
وبعيداً عما يمكن أن أطلق عليه الحرب الباردة الجديدة بين أمريكا والغرب من جهة وبين روسيا من جهة أخرى، أرى أنه من الضروري العودة بالذاكرة إلى فترة التسعينيات عندما رأى بوتين أن روسيا تتعرض "للإذلال" من قبل الغرب. وكان يعتقد ويصرح دائماً بأن الغرب عمل على فرض رؤيته للنظام العالمي، وأن انهيار الاتحاد السوفييتي كان "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين". ووقتها لاحظ كثير من المحللين أن بوتين لم يكن يريد إعادة إنشاء الاتحاد السوفييتي، ولكن وبدلاً من السعي إلى دمج روسيا في الغرب، كما أراد سلفه بوريس يلتسين - لتلعب دور الشريك الأصغر للولايات المتحدة - سعى بوتين إلى بناء قوة عظمى مستقلة يمكنها التعامل مع الغرب بشروط موسكو .
اليوم، نرى أن أوكرانيا أصبحت إحدى قضايا الخلافات الروسية الأمريكية التي تضاعفت على خلفية التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية وعمليات القرصنة الإلكترونية، وذلك أدى إلى فصل جديد من العقوبات الصارمة ضد روسيا، ما أثار غضب موسكو ودفعها إلى الرد بعقوبات مشابهة، حيث أصدر الرئيس بايدن خلال الأسبوع الماضي أمرا تنفيذيا يحظر المعاملات بين المؤسسات المالية الأمريكية مع نظيرتها الروسية، لا سيما في سوق السندات المقوّمة بالروبل، كما يحظر على المؤسسات الأمريكية إقراض نظيرتها الروسية. بالمقابل، استدعت وزارة الخارجية الروسية السفير الأمريكي في موسكو جون سوليفان عقب الإعلان عن العقوبات الجديدة، وقالت الوزارة إنه لا بد من الرد على هذه العقوبات.
والملاحظة هنا هي أن العقوبات الأمريكية الجديدة جاءت بعد مراجعة شاملة للعلاقات مع روسيا، وهو ما ستكون له أضرار كبيرة على الاتحاد الأوروبي وبريطانيا.
الموقف الأوروبي لا يمكن استغرابه هنا، ذلك أنه ومنذ بداية الأزمة بين روسيا وأوكرانيا عام 2014، برز الاتحاد الأوروبي كجهة رئيسية داعمة لأوكرانيا، برفض "العدوان الروسي"، وفرض العقوبات، وتقديم المساعدات المالية، وجهود الحل السياسي للتسوية في إطار ما كان يسمى "رباعية النورماندي" "روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا" لكن السنوات القليلة الماضية، شهدت تحوّلا في هذا الموقف، خاصة بين دول الاتحاد الرئيسية "ألمانيا وفرنسا"، حيث لمّحت بعض الدول إلى أهمية تطبيع العلاقات مع روسيا مجدداً، حيث تأثرت أوروبا أيضاً بعقوباتها ومع الزمن، تقدمت المصالح على المبادئ التي اضطلعت بالدور الأكبر في البداية مع الاعتراف أن هناك انقساما أوروبيا إزاء الملف الأوكراني، حيث إن "دول البلطيق وبولندا وبريطانيا "قبل وبعد خروجها بموجب "بريكست"" تنظر إلى روسيا على أنها دولة معتدية، لا تقف حدود عدوانها وتدخلاتها عند أوكرانيا فقط"، حيث تخشى هذه الدول من مخاوف من سعي بوتين نحو استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي.
بينما ترى دوائر سياسية أخرى في واشنطن أن العقوبات الأمريكية المذكورة سابقاً لها هدف استراتيجي يتمثل في تقليص صعود روسيا على الساحة الدولية، واستهداف التقارب الروسي الصيني بآثار العقوبات الاقتصادية، لكن على الرغم من تلك العقوبات فإن بعض خبراء الإدارة الأمريكية ينصحون بضرورة التوافق مع الجانب الروسي ولو مرحلياً -خاصة مع القلق الأمريكي من المارد الصيني - وأن اتجاهات العلاقات الأمريكية الروسية ستحكمها حدود الصراع المشترك.
نهاية، يبقى احتمال تصاعد التوتر بين البلدين محدوداً ولن يتجاوز ما شهدناه مؤخراً من الطرد المتبادل للدبلوماسيين الروس والأمريكيين من سفارتي واشنطن وموسكو إلى جانب العقوبات السابقة، ذلك أن واشنطن تتخوف من إرهاصات الأحلاف التي تتشكل في منطقتنا على شكل اتفاقات اقتصادية وعسكرية كما بين الصين وإيران مثلاً. ولا يغيب عن بالنا أن روسيا تعتمد سياسة تقوم على اقتناص الفرص في البلدان التي تعاني من الهشاشة السياسية وفقدان الأمن، لتتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر للاستحواذ على النفوذ في مناطق حساسة من العالم وهو ما نراه بوضوح عبر التدخل الروسي في سوريا لسنوات عديدة.
أما على الجانب الأوروبي، فيرى المراقبون هنا في واشنطن أن الحوار مع روسيا أفضل من استبعادها، لأنه يسمح على الأقل بنطاق تعاون محدود بدل أن يدفع الأمور نحو تعقيدات غير مرغوبة، ذلك أن التجارب التي عاينها الأوروبيون مع بوتين اتسمت بالقوة من ناحيته في أحيان كثيرة، كما حدث ضد جورجيا مثلا في عام 2008.
في خلاصة استراتيجية يمكننا القول إن كلاً من روسيا والولايات المتحدة وكذلك أوروبا تعتقد بوجود تهديد استراتيجي لها من الطرف الآخر، لذلك تبدي رغبة متجددة في الوصول إلى تفاهمات واتفاقات شراكة سياسية واقتصادية وأمنية واستخباراتية.. الاستراتيجية الروسية في التعامل مع الغرب تقوم على اعتقاد محسوم بأن أوروبا هي حلف شمال الأطلسي ببنيته العسكرية والأيديولوجية المعادية لروسيا، وأنها تشكل عمقاً مهماً للأمريكيين، مقابل أهمية أوروبا الجغرافية والعسكرية والاقتصادية وأسواقها المفتوحة لروسيا، لكن الأخطبوط الأمريكي يبقى عاملاً لا يمكن ترويضه بسهولة لما يملك من سيطرة وهيمنة عسكرية واقتصادية تستطيع فرض إرادتها السياسية على أوروبا، بل والسيطرة على الروس، حتى لو ذهبت إلى محاولات الاحتواء قبل القمة المرتقبة في يونيو المقبل.