محمد أبوالفضل يكتب:

قراءة أخرى لمقتل الإيطالي ريجيني بالقاهرة

لا يزال الغموض يلف حادث مقتل الشاب الإيطالي جوليو ريجيني منذ خمس سنوات في القاهرة، ويمثل منغصا قويا للعلاقات بين مصر وإيطاليا، وعلى الرغم من التطورات الإيجابية مؤخرا، إلا أن هذا الحادث يعكر جريانها بسلاسة، وكلما أرادت روما الإبقاء على المصالح الاستراتيجية مع القاهرة ظهرت تقارير تفتح ملف ريجيني.

قدمت قناة “تن” المصرية رواية جديدة مؤخرا حول مقتل ريجيني، لو اعتمدتها القاهرة منذ البداية كان يمكن تحاشي الكثير من المطبات السياسية التي فجّرتها تقارير حقوقية غربية، خاصة بعد أن انتقل الملف إلى البرلمان الأوروبي وجرى تداوله هناك، ووصل للقضاء في روما الذي طالب بتسليم أربع ضباط مصريين للتحقيق معهم بسبب شبهات عديدة تدور بشأن دورهم في مقتل الشاب.

تنصبّ الرواية التي قدمتها المحطة الفضائية من خلال فيلم وثائقي مدته نحو 45 دقيقة بعنوان “ريجيني”، حول اكتشاف يعلن لأول مرة على الملأ، يتعلق بأن الشاب كان يعمل ضمن جهاز استخبارات غربي أو أكثر، ومع أن الفيلم لم يحدد اسمه صراحة، لكن السياق العام والمقدمة والتمهيد التدريجي كلها تشير إلى بريطانيا.

جاء الفيلم من الناحية الفنية جيدا، حيث استخدم “دوبلير” لريجيني، وقدم قصصا متنوعة على لسان خبراء أمن وأكاديميين من إيطاليا تثبت تخابر الشاب، وأن تركيزه واهتمامه بالعمال البسطاء في مصر يؤكدان ذلك، وحوى الفيلم لقاءات مع خبير أمني مصري رفيع ومحام ضليع وشخصيات التقت ريجيني وتعاونت معه.

ساق العمل الكثير من الشهادات لتثبيت تهمة التخابر، وقد سمعت رواية من صحافي مصري كبير بعد مقتل ريجيني منذ سنوات بهذا المعنى، لكن السؤال الذي ظل معلقا لماذا لم تستخدم القاهرة هذه الرواية للدفاع عن موقفها بدلا من ترديد روايات متناقضة، أثارت شكوكا حول دور ما لأجهزة الأمن في عملية مصرع الشاب؟

يحمل التلميح لهذه الرواية في الوقت الراهن وعبر وسيلة إعلامية شكّا ضمنيا في صدقيتها أو إشارة قاسية لبعض الجهات الغربية، فإذا لم تتوقف عن ممارسة ضغوطها فمن الممكن فتح هذا الملف وتقديم أدلة تدعم فكرة التخابر بشكل غير مباشر.

ينطوي هذا السيناريو على رسالة لروما بأن استمرار العزف على وتر الأزمة وتأثيرها على علاقاتها الحيوية مع القاهرة قد يضطر الأخيرة إلى تقديمها رسميا للقضاء الإيطالي بكل ملابساتها العلمية والسياسية، ووقتها يتحول الحادث إلى كرة لهب ربما تلحق الأذى بكل من يقترب منها.

لا أعلم أسباب عدم اعتماد مصر على هذه الرواية مبكرا، خاصة أن الفيلم قدم استنتاجات وانتقى معلومات تؤيدها، ربما تكون الأسئلة التي أثارها متشعبة ويصعب العثور على إجابات محددة لها، أو لا توجد وثائق بحوزة الأمن تثبت التهمة لأن “اللابتوب” الخاص بالشاب الذي تستر خلف دراسة الماجستير عن الباعة الجائلين في القاهرة، أخفته أسرته عقب الحادث بكل ما يحتويه من رسائل.

جاءت أزمة ريجيني من تباين الروايات المصرية التي تنفي جميعها صلة أجهزة الأمن به، لاسيما أن جثته وجدت على الطريق بالقرب من أحد المقرات التابعة لجهاز الأمن الوطني، وهو دليل اعتمد عليه الفيلم الوثائقي لإبعاد الشبهات عن وزارة الداخلية، وتوجيه دفة الاتهامات إلى جماعة الإخوان المستفيدة من ذلك.

لم تكف آلاف الصفحات من التحقيقات التي جرت في مصر بشكل منفرد أو مشترك مع إيطاليا، في إقناع روما بعدم علاقة جهاز الأمن بالحادث من قريب أو بعيد، لأن سمعته لا تزال محل شك على الرغم من الاعتراف بكفاءته المهنية، إذ درجت منظمات حقوقية على تقديم تقارير تدين تصرفاته، اعتمادا على سمعة تاريخية ملوثة، ومعلومات تحمل في أحشائها ارتباكا يقلل من قيمتها الأمنية.

إذا كانت لدى القاهرة رواية سليمة تسند الوفاة لوقوع الشاب في فخ صراعات أجهزة تخابر ولم تستخدمها، فهذا يعني أنها تفتقر إلى الأدلة اللازمة، وهو ما يمكن استشفافه من الفيلم الوثائقي الذي حاول تحريك المياه الراكدة لجهة تخفيف الضغوط التي تتعرض لها الحكومة المصرية من وقت إلى آخر.

تأتي مشكلة هذا النوع من الأزمات من أنها لا تسقط بالتقادم، وتحظى بتعاطف إنساني عام، ويمكن استثمارها سياسيا في أي وقت، وفي إيطاليا تعد من أهم أوراق الضغط في يد المعارضة إذا أرادت الحكومة التغطية عليها أو عدم الاكتراث بها.

أصبحت الحلول التي يمكن التوصل إليها بين القاهرة وروما صعبة أو بعيدة المنال عندما انتقلت الأزمة إلى القضاء، ودخلت على خطوطها أحزاب ومنظمات حقوقية لتوظيفها، واقتربت منها جهات متعددة من مصلحتها ألا ترى تطبيعا كاملا في العلاقات بين مصر وإيطاليا يؤثر على بعض التوازنات الإقليمية.

كما أن المضمون الذي قدمه فيلم “ريجيني” المترجم إلى الإنجليزية فقد جزءا كبيرا من تأثيره، لأنه قُدم من خلال وسيلة إعلامية محلية قليلة الانتشار، ولم يحظ بترويج وكأن الحكومة التي وقفت وراءه من خلف الكواليس تخجل من الترويج له، أو أرادت جس النبض ومعرفة ردود الأفعال أولا، أو هدفت إلى حصره في حيز الاجتهاد الإعلامي ونفي أيّ صفة رسمية له حاليا.

مع أهمية الرواية التي قدمها الفيلم وإبعادها الشبهات عن أجهزة الأمن، إلا أن تأخير عرضها لسنوات يثير شبهات في المحتوى، لأن مضي أكثر من ستة أعوام على الحادث هو فترة طويلة، وكان يمكن أن تصبح قصيرة بالنسبة إلى الأفلام الوثائقية والتحقيقات الاستقصائية التي تحتاج إلى وقت وجهد لو قدم عبر وسيلة محايدة.

وبدلا من أن يثبت الفيلم نجاعة الأمن قد يؤدي لتثبيت التهمة، حيث قدم معلومات متفرقة تخدم فكرة البراءة واعتقد أصحابه أن الفيلم كفيل بجلبها، وهو اعتقاد خاطئ، فالرواية التي أشارت لضلوع أجهزة تخابر في مقتل الشاب الإيطالي بدت أقرب لاستنتاج أكثر منها معلومات وموجّهة لردع جهات معينة ومنعها من التمادي في المتاجرة بالقضية.

أكد الفيلم أن قضية ريجيني حدثت لتتحول إلى سيف مسلط على رقبة القاهرة، وتحمل أبعادا سياسية متشابكة من بدايتها وحتى نهايتها، لذلك لن تفلح معها روايات أو مساومات، فهي جرح مستمر في النزيف لقوة الدعاية التي يتم توظيفها وقدرتها على دغدغة مشاعر الناس، بينما الدعاية المضادة غير قادرة على صياغة خطاب متماسك يضع حدا للاستهداف، ما يعني أن الأزمة وجدت لتبقى إلى أجل غير مسمى.