فاروق يوسف يكتب:
المستبد الجديد بلباسه التونسي
لم يدافع أحد عن الاخوان المسلمين. البكاء كله انصب على الديمقراطية. تلك الأيقونة المقدسة التي كسرها قيس سعيد.
فجأة ظهر العرب على حقيقتهم ديمقراطيين، شعوبا تضع الديمقراطية في منزلة هي أعلى من كل شيء في الحياة. تموت من الجوع ولا تُمس الديمقراطية. ينهب النواب البلاد وتبقى مؤسستهم الدستورية التي اسمها البرلمان قائمة وتظل حصانتهم في أمان. ينتشر الفساد بين النفوس فلا تبقى نفس إلا وغمرتها رائحته ولا تتعرض الأحزاب التي تمكنت من السلطة للمساءلة.
الشعب الذي يحترم نفسه ومكانته بين الأمم وسمعته عبر التاريخ يجب عليه أن يحترم الديمقراطية ولا يخدش حياءها بالرغم من أنه يعرف أنها مصدر كل الهلاك المهين والتيه المذل والندم الحائر الذي انتهى اليه الشعب التونسي بسبب تجربة ديمقراطية أذلته وجوعته وشردته وسرقته وسطت على ضميره وأهانت كرامته.
لقد فوجئ الديمقراطيون أن الشعب التونسي اندفع إلى الشوارع بتلقائية ومن غير أن يراجع نفسه مؤيدا الخطيئة التي ارتكبها رئيس جمهوريته حين أقال الحكومة وجمد عمل مجلس النواب وبدأ بمساءلة أصحاب رؤوس الأموال بانتقاء محسوب عن سر تضخم ثرواتهم ولا يزال الأمر في بدايته.
من وجهة نظر الديمقراطيين -من غير أن نحشر الاخوان في المسألة- كان ذلك انقلابا وهم محقون في ذلك. فالرجل الذي كان ينتظره مصير سيء بالتأكيد من خلال تواطؤ قوى الفساد داخل الحكومة وتحت قبة البرلمان ضده انتظر طويلا غير أنه سبق الجميع إلى اللحظة التي ينقض فيها على الديمقراطية التي اتاحت للصوص والظلاميين أن يشكلوا الأغلبية في برلمان صار مع الوقت عبارة عن سيرك انتهت مشاهده بتوجيه اللكمات بدلا من الكلمات.
لقد أقفل سعيد أبواب السيرك مؤقتا. ذلك ليس مهما بالقياس إلى ما يمكن أن تتوقع حركة النهضة وسواها من الأحزاب أن تواجهه بعد أن رُفع الغطاء القانوني الذي أسمه الحصانة عن نوابها. سيكون السؤال القديم الجديد جاهزا "ما هي مصادر التمويل الخارجي وكيف اُستعمل ذلك التمويل في افساد العقول والضمائر والأصوات؟" ذلك سؤال قانوني لا علاقة له بالسياسة. ثم مَن هو قيس سعيد لكي يتحدث في السياسة. إنه مجرد رجل قانون. كان من الممكن الاستخفاف به لو أنه استمر في سيرته الأولى، رئيسا منتخبا بطريقة مدهشة يتكلم العربية الفصحى في زمن تشهد فيه تونس انهيارا في نظامها التعليمي بعد أن كانت دولة متقدمة في ذلك المجال.
أحرجهم في السابق في عدد من المرات معلم العربية ذاك وكان عنيدا غير أنهم لم يتوقعوا أن يتحول إلى رجل انقلابي بطريقة ثورية وينسف ثمرة الديمقراطية، البرلمان ويسقط الشيخ راشد الغنوشي من عرشه ويضطره إلى الاعتصام يائسا أمام أبواب البرلمان بعد أن تم منعه من دخوله وحين يستغيث بأنصاره لا يهب لنجدته أحد.
ليس ذلك بالوضع الصحيح الذي يتوقعه الديمقراطيون العرب.
نحن أمة تناصر الاستبداد ولا تستحق سوى أن يحكمها الطغاة. قيس سعيد طاغية إذاً. سيماهم في وجوههم الطغاة. شكله يدل عليه كما أن عربيته الفصحى تشير إلى شيء ما خفي، وهو ما تم الإفصاح عنه بمجرد أنه كشف عن أن حركة النهضة التي وقفت جهات عالمية معها لم تكن تملك غطاء شعبيا محليا. حتى القيروان التي هي مدينتها لم تناصرها. كانت اللعبة أكبر من قيس سعيد، معلم العربية العنيد إذاً. المشكلة تكمن في أن الشعب التونسي وفي وقت قياسي صار يثق أن الحل يكمن في الإجراءات التي سيتخذها قيس سعيد ضد الديمقراطية وهو سعيد لأنه تخلص ولو لوقت قصير من أعظم ما يمكن أن تنتجه الديمقراطية كما يقول الديمقراطيون وأقصد البرلمان.
ما هذا الشعب الذي يشبه رئيسه؟
مشكلة الرئيس أنه باعتباره رجل قانون كان حريصا على أن لا يخرق الدستور ويتصرف قانونيا وفي الوقت المناسب. غير أنه لم يفهم أن ما سيقوم به لا يتعلق بتونس وحدها بل هو يتحكم بمصير تنظيم حزبي واسع الانتشار تقف وراءه دول صارت تراهن بأموالها في عالم السياسة. لذلك كانت قراراته بمثابة مغامرة لمواجهة العواصف. الرجل الذي فكر في شعبه ومصيره صار عليه أن يواجه عالما لم يكن يتوقع أنه سيقف أمامه باعتباره بطلا مغضوبا عليه.
الديمقراطيون كلهم ضده، فهو رجل غير ديمقراطي.