ماجد السامرائي يكتب:
حان أوان إغلاق ملف الغزو العراقي للكويت
قال أدولف هتلر “المنتصر لن يُسأل عما إذا كان يقول الحقيقة”.
وجدت هذا المثال مناسباً قبل الدخول في مراجعة وجع صدمة وتداعيات الثاني من أغسطس 1990 على الشعبين الكويتي والعراقي، بسبب قرار صدام حسين حماقة الاجتياح العسكري للدولة العربية الجارة الكويت، التي قدمت له العون في حرب الثماني سنوات مع إيران لقناعتها بأن نظامها لن يتوقف عند العراق إذا ما تم احتلاله بل سينتقل وفق مبدأ تصدير الثورة إلى جميع بلدان الخليج والمنطقة العربية.
كان صدام في لحظة ضعف وانسداد عقل، رغم أنه كان قادراً على تحويل انتصاره العسكري إلى نقطة مشرقة لبناء بلده، وأن يداوي العجز والانهيار المالي بعقل سياسي هادئ لا تستفزه المواقف والقرارات الاقتصادية التي اعتقد أن دولة الكويت خضعت فيها لصالح أجندات دولية ومخططات أرادت بها تحويل الانتصار العسكري إلى نقطة تداع وانهيار للدولة العراقية وأن يصبح العراق بلد الخراب والجياع.
في المقاييس العسكرية التقليدية لم تكن الكويت بلداً كبيراً بجيش جرار قادر على مواجهة جيش مثل جيش العراق، انقلب ليصبح عدواً خلال ساعات من القرار الخائب، فقد كان يُنظر إليه قبل سنة بجيش القادسية الجديدة وحامي البوابة الشرقية، وكانت قوافل الصحافيين الكويتيين تسبق زملاءهم العراقيين في الوصول إلى حافات سواتر الفيلق الخامس جنوبي العراق ينقلون التقارير المصورة عن انتصارات الجيش ضد الإيرانيين.
شخصياً كنت شاهداً، حين أدرت الإذاعة والتلفزيون في أيام الحرب، على تلقي طلبات مباشرة من المئات من المواطنين الكويتيين على إعادة بث أناشيد “منصورة يا بغداد وهل يهل العمارة” وغيرها من تلفزيون بغداد، حيث كان جميع المواطنين الكويتيين يمتلكون في بيوتهم جهازي تلفزيون الأول يعرض القناة الكويتية والثاني يعرض القناة التاسعة العراقية، فلم تكن هناك فضائيات في ذلك الوقت ولا إنترنت. بل كانت الطلبات تأتيني مباشرة من مسؤولين في الدولة الكويتية، وكان صدام يعرف هذه الحقيقة، فهل يمكن أن يتحول شعب وبلد خلال ساعات إلى عدوّ؟
كان كل شيء يحصل في ساعات قبل اندفاعة الانهيار بطريقة مجنونة، فلم تكن كلمات السفيرة الأميركية أبريل كلاسكي الغامضة حمّالة الأوجه هي التي سهّلت على صدام قرار الموت البطيء لحكمه ولشعب العراق واتخاذ قرار الاجتياح، ولا تلك المليارات التي طالبت بها الكويت وكانت قد قدمتها عوناً للعراق في حربه هي التي أثارت فيه ذلك الغضب والانتقام من الحكام الكويتيين بإرسال الفرق والدبابات والجيش الذي أرهقته حرب الثماني سنوات، وكان رجاله يتوقعون أنهم عادوا إلى عوائلهم وسينعمون بحياة هانئة بعد سنوات القتال.
السنوات الثلاثين التي مضت على الكارثة المؤقتة للكويتيين والدائمة على العراقيين أصبحت كافية لكشف بعض المواقف من بعض الشهود المحايدين التي لم تُعلن في حينه، أو أعلنت بصورة جزئية لبعض الحكام العرب المتواطئين بشكل لا يتناسب إلا مع عملاء صغار.
التهم ألصقت بالقوات العراقية كجزء متمم لعمليات الإبادة على طريق الموت من الأراضي الكويتية إلى البصرة، لكن شهادات العشرات من الضباط كشفت حقائق مغايرة أكدت أن ما تم هو عمليات نفذها غوغاء
واحد من الشهود هو وزير الخارجية الأردني مروان القاسم، الذي تحدث في مقابلة تلفزيونية قبل سنتين عن أسرار الساعات التي حاول خلالها الملك الراحل الحسين بن طلال تطويق الأزمة ونقل موافقة صدام حسين على الانسحاب في صفقة اشتغل عليها وأراد إتمامها مع السعوديين، ولم تعجب الرئيس الراحل حسني مبارك فأفسدها بعد تعاونه مع الرئيس الأميركي جورج بوش في ترتيب خدعة صور دخول القوات العراقية إلى الأراضي السعودية التي نقلها كل من رامسفيلد والأمير سعود الفيصل إلى الرئيس بوش في مقره بولاية “مين” حيث قابل الملك الحسين.
كان مطلوباً منع صدام من الموافقة على حيثيات الانسحاب بوساطة الملك الحسين، فتم استفزازه في اجتماع قمة القاهرة. كان قرار الحرب قد اتخذ مسبقاَ من قبل الإدارة الأميركية.
مروان القاسم، الذي أكد دقة معلوماته، قال إن القوات الأميركية وصلت السعودية قبل قرار الحرب.
حسني مبارك هو ذاته الذي أرسل ابنه إلى واشنطن قبيل أيام من إعلان الحرب على العراق عام 2003 ناقلاً قنينة “العار” بامتلاك العراق الأسلحة البيولوجية التي حملها كولن باول في اجتماع لمجلس الأمن عشية اتخاذ الولايات المتحدة قرارها الغبي باجتياح العراق واحتلاله، وأسفَ باول على صنيعه المخزي الذي أفقده الشرف العسكري الذي كان معتزاً به بعد فوات الأوان.
قبل اجتياح الكويت كانت القوات الأميركية في شهر يوليو 1990 تجري “لعبة حرب” في الكويت، وكان القائد هربرت نورمان شوارزكوف في ذلك الحين قد ذكر أن التدريب يهدف إلى صد أيّ هجوم خارجي على الكويت والدفاع عنها، وقد ناقش ذلك في كتابه عن تجربة الولايات المتحدة حيث قدم الأسس التصويرية لعملية “درع الصحراء” وفيما بعد “عاصفة الصحراء”.
وقعت حرب السابع عشر من يناير 1991 وكانت تفصيلات يومياتها قد أكدت بأن المقصود لم يكن بالنسبة إلى القوات الأميركية التي قادها شوارزكوف تحرير الكويت الذي كان هدفاً ثانويا ، كان الهدف الأول هو سحق القوات العراقية بشكل جنوني لا يقل عن مستوى جنون قرار الاجتياح العراقي للكويت. المشاهد التي كانت تنقلها نقلاً حياً قناة الـ”سي إن إن” أوضحت بشاعة الإبادة البشرية للجنود العراقيين المنسحبين من أرض المعركة. ثم كان الإذلال اللاحق في اتفاقية خيمة صفون بعيد انتهاء العمليات القتالية.
كان هدف طائرات بي 52 تدمير البنية التحية في العاصمة العراقية، وأبراج الكهرباء والاتصالات. كما استخدمت القنابل الخارقة التي قصفت ملجأ العامرية ببغداد وذهب ضحيتها المئات من الأطفال والنساء تحت ذريعة أن القيادة العراقية كانت هناك. انتهت الحرب وكان الجيش الأميركي منتصراً على الجيش العراقي الذي أرادوا أن ترتبط به صفة الهزيمة مستبعدة عنه صفة الانتصار في حرب الثماني سنوات مع إيران.
عاد الكويتيون حكاماً ومواطنين إلى ديارهم، ليبدأ فصل جديد من مسلسل الانتقام من العراقيين وإذلالهم، وليس من نظام صدام، بترتيب من قوى اليمين الأميركي وتفاعل وتشجيع من الضحية “الكويت”، وغالباً ما تصبح الضحية أكثر قسوة من الجلاد حين تستفيق من محنتها. كانت الصورة مذهلة في الخراب المُدبّر الذي حصل في الكويت من نهب للممتلكات العامة والخاصة واعتداءات صارخة ضد حقوق الإنسان.
كان المطلوب تضخيم الصورة وإلصاق التهم بالقوات العراقية كجزء متمم لعمليات الإبادة العسكرية على طريق الموت من الأراضي الكويتية إلى البصرة، لكن شهادات العشرات من الضباط العراقيين كشفت حقائق مغايرة أكدت بأن ما تم هو عمليات نفذها غوغاء مدفوعون من جهات سرّية، وأن الجيش العراقي بريء من تلك الاتهامات، وهي ذات فرق الغوغاء التي أشاعت الذعر والموت بعد ما سمّي بالانتفاضة الشيعية في العراق، وهي ذاتها التي نهبت محتويات المتحف ودار الكتب العراقية.
مسلسل إيقاع الإذلال بالعراقيين لم يتوقف، وأكثر فصوله قسوة الحصار الظالم على شعب العراق. من بين المظاهر التي اعتبرت عقوبة على المحتل المعتدي قصة التعويضات التي لم تنته رغم مرور ثلاثين عاماً، حيث استقطع أكثر من 50 مليار دولار إلى حد الآن، جعلوا حتى من الذي هجر سرير زوجته في ليلة الغزو يستحق تعويضاً. ذهبت هذه الأموال من الشعب العراقي. حسناً فعلوا لأنها لو بقيت لذهبت إلى جيوب حكام العراق الفاسدين. في حين لم يُسأل الأميركان الذين وصفوا أنفسهم بمحتلي العراق رسمياً على تبعات احتلالهم وقتل الآلاف من أبنائه وتدمير بنيته التحتية ومطالبته بالتعويضات في ازدواجية المعايير وخضوع الأمم المتحدة لها.
من المظاهر السياسية الرخيصة عام 1991 وما بعده، كمّ النفاق الذي أظهره بعض المعارضين العراقيين المرتزقة باستغلال حالة انتقام حكام الكويت من النظام العراقي، فقدّم بعضهم الولاء الكاذب ودعاوى التنسيق من أجل مساعدة دولة الكويت والتنسيق معها للقضاء على نظام صدام وهؤلاء في حقيقتهم كانوا يحسنون الدجل وقبض المال الرخيص تحت عناوين مختلفة، والبعض الآخر تحول إلى مزوّر للتاريخ العراقي من أجل الارتزاق والوجاهة الرخيصة.
شعب العراق يحتفظ لشقيقه شعب الكويت بالمحبة والتعاطف معه لما أصابه من الاجتياح الغبيّ، لكنه اليوم في محنة تولي طبقة سياسية تدّعى الإسلام زوراً وهي تنفذ مشروع التوسع الإيراني في العراق ثم الخليج ومنها الكويت، فطهران لا تريد علاقة أخوة حقيقية وانفراجا في العلاقات الكويتية – العراقية معتقدة أن ذلك يضر بمصالحها في العراق.
ينبغي على الإخوة الكويتيين أن ينهوا مسلسل الحقد والكراهية وإيذاء العراق في مفاصل جزئية تتعلق مثلاً بعلاقات الحدود البحرية، بعد أن رسمت لهم الأمم المتحدة الحدود البرية رغم الأذى الذي ألحقته بالعراقيين. فقصة الحدود قد تشكل إذا ما أراد المغرضون قنبلة موقوتة لسنوات وعقود مقبلة.
هل يستطيع الكويتيون التحرر من دوافع القلق من شعب العراق الذي يحبهم، وخسر المال والموارد وكل شيء ما عدا الكرامة والوعي والثورة الكامنة في أعماقه، وألا يستغل بعض الكويتيين وهم في مواقع مهمة حالة الضعف والهوان التي يسببها الحكام في بغداد فهؤلاء ليسوا خالدين. ذلك يتوقف على الإخوة الكويتيين بأيديهم وبقلوبهم الطيبة، وألا يستمعوا إلى الدجالين المرتزقة فأولئك أغراب لا يحبون لا العراق ولا الكويت.
كما للحرب أسياد ومنتصرون وخاسرون، للانتقام إخوة وأحباب وأنصار منافقون، لكنه انتقام يأكل أصحابه. يظلّون أحياء لكن بلا أرواح وبلا ضمائر.