محمد سيف الدولة يكتب:
المواطن الحيران بين الأخيار والأشرار
فى مثل هذه الايام منذ اربعين عاما، عاشت مصر محنة اعتقالات سبتمبر 1981 الشهيرة، حين انطلقت قوات الامن وسيارات الترحيلات لتعتقل آلاف المصريين لتزج بهم فى السجون.
بررها السادات حينها بان هناك فئات مخربة تهدد الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي وسلامة الوطن مما يستوجب اتخاذ تدابير استثنائية لإنقاذ البلاد.
***
كان القائمة الاولى للمعتقلين تضم 1536 شخصا، من الكتاب والمفكرين والسياسيين والمثقفين الذين ينتمون الى كافة التيارات الفكرية والسياسية المصرية بلا استثناء. ولأول مرة تجد القومى مع الاشتراكى مع الليبرالى مع الاسلامى مع الشيخ مع القسيس فى زنازين واحدة أو عنابر مشتركة.
كان من ابرز المعتقلين، فتحى رضوان، عبد العزيز الشوربجى، عصمت سيف الدولة، نبيل الهلالى، حلمى مراد، فؤاد سراج الدين، فريد عبد الكريم، محمد حسنين هيكل، محمد فايق، عبد العظيم ابو العطا، محمود القاضى، عمر التلمسانى، مصطفى مشهور، الشيخ المحلاوى، الشيخ كشك، اسماعيل صبرى عبد الله، فؤاد مرسى، عبد الغفار شكر، حسين عبد الرازق، عبد المنعم ابو الفتوح، حمدين صباحى، كمال ابو عيطه، ابو الفضل الجيزاوى، لطيفة الزيات، امينة رشيد، ميلاد حنا، ابو العلا ماضى، كمال السنانيرى، عبد العظيم مناف، صلاح عيسى، عبد العظيم المغربى وآخرين.
***
وتم تكليف اجهزة التحقيق، بالتعاون مع وزارة الداخلية، بتقسيم المعتقلين لفرق وجماعات، وتفصيل وتلفيق التهمة المناسبة لكل فريق. وشهدت جلسات التحقيق مهازل نتيجة تهافت التهم والأوراق.
ولم يقتصر الأمر على الاعتقالات، بل صدرت حزم إضافية من القرارات ضد عديد من الشخصيات والمؤسسات الأخرى:
- فتم نقل بعض أعضاء هيئة التدريس والجامعات والمعاهد العليا من وظائفهم بذريعة ممارستهم أنشطة لها تأثير ضار على الرأي العام، وتربية الشباب وتهدد الوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي أو سلامة الوطن.
- كما تم نقل بعض الصحفيين والعاملين بالمؤسسات الصحفية القومية واتحاد الإذاعة والتليفزيون والمجلس الأعلي للثقافة إلي هيئة الاستعلامات بنفس الذرائع.
- وتم التحفظ علي أموال بعض الهيئات والمنظمات والجماعات والجمعيات بذريعة انها مارست نشاطاً أو أعمالاً هددت الوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي أو سلامة الوطن.
- كما تم حل بعض الجمعيات لنفس الذريعة.
- وتم الغاء التراخيص الممنوحة بإصدار بعض الصحف والمطبوعات مع التحفظ علي أموالها ومقارها.
- كم تم عزل البابا شنودة من منصبه، وتعيين لجنة خماسية من الاساقفة للقيام بالمهام البابوية، وهو القرار الذي صاحبه اعتقال عشرات من المسيحيين والزج بهم فى السجون ضمن القائمة الاولى، المذكورة عاليه، للمتحفظ عليهم كما كانوا يسمونهم وقتها.
***
وخرج رجال السادات، وصبية نظامه فى البرلمان والمنابر والاعلامية والصحفية، يبايعونه كما يفعلون مع كل رئيس، بل ويزايدون عليه ويصرخون بأعلى أصواتهم ((أن اضرب بيد من حديد، فالشعب معك ووراءك))
وخرجت منشتات الصحف الحكومية تتحدث عن المؤامرات والخونة والعملاء والفتن الطائفية وتختلق مزيد من التهم والادعاءات وتضخم وتبالغ فيها بغرض التشهير والطعن فى وطنية وشرف المعتقلين.
كانت ايام سوداء على مصر، لم يخفف من وقعها سوى ان الجميع بدون استثناء كانوا جنبا الى جنب فى السجون، فهونت وحدتهم فى الظلم، عليهم وعلى ذويهم. كانت مصر كلها مسجونة.
لقد كان هناك حالة وحدوية قريبة الشبه بحالة ميدان التحرير فى الثمانية عشر يوم الأولى من الثورة من 25 يناير الى 11 فبراير 2011، والتى أحب دائما أن أسميها ((الـ 18 البيض)).
***
كان السبب الذى اعلنه السادتيون فيما بعد تبريرا لهذه الحملة، هو انه اراد تأمين الجبهة الداخلية وحمايتها من اى معارضة او قلاقل، يمكن أن تعطى ذريعة لاسرائيل لإلغاء أو لتعطيل انسحابها المزمع من سيناء فى ابريل 1982.
أما السبب الفعلى فى تصورى فهو ان القوة الوطنية المصرية كانت فى حالة مخاض ثورى فى مواجهة السادات ونظامه وكانت فى سبيلها الى تشكيل جبهة وطنية موحدة لإسقاطه، بعد ان سلم مصر للأمريكان، وتصالح مع العدو الصهيونى ووقع اتفاقيات كامب ديفيد التى قيدت السيادة المصرية فى سيناء، وأخرجت مصر من مكانتها العربية والاقليمية، وسلم ادارة الاقتصاد المصرى لصندوق النقد الدولى ونادى باريس، وفتح الباب لراس المال الاجنبى ووكلاءه من رجال الاعمال المصريين لاستباحة ثروات مصر ومقدراتها، ناهيك عن تعميق سياسات الاستبداد بترسانة من الاجراءات والقوانين المقيدة للحريات.
لقد كانت الشخصيات التى ذكرت اسماءها وغيرها كثيرون ممن تم اعتقالهم هم الآباء المؤسسين للحركة الوطنية الحديثة فى مصر بعد حرب 1973، كانوا هم شيوخنا واساتذتنا ومفكرينا. ولكن فى تلك الايام من سبتمبر الى اكتوبر 1981 كان يتم وصفهم بكل اوصاف الشر والاشرار.
***
وبعد جريمة اغتيال السادات فى 6 اكتوبر 1981 ببضعة ايام او اسابيع قام مبارك بالافراج عن غالبية المعتقلين السياسيين، ليعودوا للمشاركة فى الحياة السياسية، ولتبدأ جولات جديدة من الصراع والشد والجذب بين السلطة والمعارضة، مع اتاحة هامش من الحريات والديمقراطية يضيق ويتسع حسب الظروف وحسب طبيعة المعارضة، الى أن قامت ثورة يناير عقب التزوير الكامل لانتخابات 2010، فى مواجهة مشروع التوريث او التمديد.
***
ولقد تكررت مثل هذه الصدامات السياسية بين السلطة وبين القوى السياسية المعارضة عديد من المرات على امتداد تاريخنا الطويل:
- فلقد تم اعتقال الاف من الشيوعيين فى مصر عام 1959 ليقضوا فى المعتقلات خمس سنوات كاملة، قبل الافراج عنهم فى 1964 ونقلهم من قوائم الاشرار الى قوائم الاخيار بل والقبول باشراكهم فى الحياة السياسية ودخولهم الاتحاد الاشتراكى واعتلاء العديد منهم لمواقع قيادية فى تشكيلاته التنظيمية.
لينقلب عليهم السادات مرة اخرى فى السبعينات وبالتحديد بعد انتفاضة يناير 1977، ويتم تلفيق عشرات القضايا والاتهامات لكوادرهم بتهمة تأسيس او الانضمام الى تنظيمات سرية وغير شرعية.
ولتخف حالة الاحتقان بينهم وبين السلطة بالتدريج بعد رحيل السادات وليتحول قطاع منهم الى حليف للسلطة فى سنوات مبارك الاخيرة.
ويستثنى من ذلك الحركات الماركسية الشبابية الحديثة، التى خرجت للوجود بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، وظلت فى حالة معارضة وصدام مستمر مع السلطة.
***
- وهى الظاهرة التى تكررت ايضا مع الناصريين الذى كانوا يمثلون التيار الذى حكم مصر 1954 ـ 1970 قبل ان ينتقلوا الى خانة الاشرار ويتم الزج بهم فى سجون السادات فى مايو 1971، فيما عرف بثورة التصحيح وليتم الحكم عليهم بأحكام قاسية فيما سمى بقضايا مراكز القوى التى وصلت فيها الاحكام الى الاعدام قبل ان يتم تخفيفها الى المؤبد وليخرجوا من السجن بعد سنوات طويلة ويعودوا الى المشاركة والانخراط بالتدريج مرة اخرى فى الحياة السياسية، عبر الحزب الاشتراكى العربى الناصرى تحت التأسيس، ثم الحزب العربى الديمقراطى الناصرى، ويشغل احد قياداتهم البارزة اليوم رئاسة المجلس القومى لحقوق الانسان التابع للدولة.
هذا بالاضافة الى الحركات الناصرية المستقلة عن اجهزة السلطة التى تأسست فى الجامعات فى السبعينات، والتى ظلت منذ تأسيسها حتى اليوم فى حالة معارضة وصدام مع السلطة.
***
- اما الاخوان فلقد تراوحت علاقتهم مع السلطة من توافق قبل 1954 الى صدام 1954-1970 الى تحالف 1970 ـ 1978 الى صدام 1979 ـ 1981، الى تعايش سياسى وتنسيق امنى مع حالة من الكر والفر 1981 ـ 2011 الى صدام حاد 2013-2021.
***
- بالإضافة الى هذه التيارات الثلاثة الرئيسية، فان كثير من شخصيات او احزاب المعارضة قد تعرضت لهذه الحالة المتراوحة بين الشد والجذب، الرضا والغضب، الترخيص والتجميد، الاعتقال والافراج ..الخ فى مرحلة ما من مراحل علاقتها مع السلطة، مثل احزاب الوفد والعمل على سبيل المثال، والامثلة كثيرة.
***
- ناهيك بطبيعة الحال عن شباب ثورة يناير، الذى كان هو بطل المشهد الثورى الرائع الذى شهد عليه كل العالم فى ميدان التحرير عام 2011، والذى تم وصفه حينها "بالورد ال فتح فى جناين مصر" و"ارفع راسك فوق انت مصرى" واذا بالعديد منهم اليوم محل التوقيف والسجن والتحقيق والمحاكمات.
***
فى السطور السابقة وفيما عدا مرحلة الآباء المؤسسين التى استهللت بها المقال، فاننى لم أود التطرق الى اسباب الصراع او الوفاق بين اى من التيارات والاحزاب المذكورة وبين السلطة فى اى من العصور والازمان. لأنه ملف شديد الاتساع يحتاج الى كتب ودراسات مطولة ومدققة لدراسته وتحليله واستخلاص اهم الدروس منه.
كما اننى لم اتطرق بطبيعة الحال الى ظاهرة الجماعات المسلحة والارهابية لانها خارج نطاق هذه المناقشة.
***
ولكن غاية الحديث وهدفه هو الرغبة فى التوقف والتأمل فى أزمة وحيرة المواطن المصرى على مر كل هذه العصور، الذي قد تكون بينه وبين شخصيات تنتمى الى واحد او أكثر من هذه الشخصيات أو التيارات، مشاعر ثقة وتقدير واحترام قائمة على علاقات من القرابة أو الجيرة أو الزمالة بل وربما التوافق الفكري والانتماء السياسي ايضا، حيرته وهو يجد نفسه مجبرا كل بضع سنوات ان يحب من ترضى عنهم السلطات وان يكره من تغضب عليهم.