ماريا معلوف تكتب:
أزمة أوكرانيا والشرق الأوسط.. تأثيرات مستقبلية لا تنتهي
تتطلع العديد من دول الشرق الأوسط إلى موازنة علاقاتها مع الولايات المتحدة وروسيا، وكثير منها بقي عالقا في الوسط مع تكشف فصول النزاع في أوكرانيا.
لكن الأهم من ذلك أن هذا الهجوم سيؤثر مستقبلا على العديد من القطاعات الحيوية لاقتصادات تلك الدول، بدءا من النفط والغاز وصولا إلى الواردات الزراعية والسياحة، وربما قد نرى تداعيات إضافية ستؤدي حتما إلى زيادة عدم الاستقرار في المنطقة وفي أماكن أخرى، إذ أن القلق الكبير من تقليص واشنطن تركيزها على الشرق الأوسط، قد يرسم معه الرد الأميركي على الأزمة في أوكرانيا معالم التصورات إزاء النوايا الأميركية في المنطقة مستقبلا، لا سيما ما يخص البلدان العربية.
وحديثي هنا ليس عن تبعات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا على بقية العالم، فمنذ اللحظة الأولى وحتى قبل العملية كان الجميع يدرك أن آثارها على الأغلب لن تقف عند القارة الأوروبية فقط، وإنما ستتعدى تبعاتها ونتائجها مناطق النزاع، وستصل حتما إلى منطقة الشرق الأوسط على المدى القريب والبعيد كذلك، ولا يخفى بالطبع ما تحمله هذه القضية من صراع على ميزان القوى بين الدول الكبرى، سواء اعتبرناها منازلة حول النفوذ بين روسيا والولايات المتحدة على الساحة الأوروبية، أو أنها صراع حول النفوذ الجيوسياسي للدولتين العظميين على أوروبا من خلال توسع رقعة الحلف الأطلسي في دول "حلف وارسو" المنحل، ومحاولة أقطار الناتو إيصال صواريخها إلى الحدود الروسية مباشرة.
حديثنا هنا عن الشرق الأوسط حصرا، فمثلا تعد مصر ولبنان وليبيا من بين أكبر مشتري القمح الأوكراني في المنطقة، مع دول مثل اليمن وسوريا تعتمد على مشتريات برنامج الغذاء العالمي للقمح الأوكراني كمساعدات، فمصر التي يزيد عدد سكانها على 100 مليون نسمة هي أكبر مستورد للقمح في العالم، والسلطات هناك تحذر بالفعل من نقص هذا المنتج، وروسيا هي المورد الرئيسي للقمح بالنسبة لمصر فيما تأتي أوكرانيا في المرتبة الثانية، وبالتالي يمكن أن يؤدي النقص على مدى أطول إلى تدهور حالة الأمن الغذائي المتردية بالفعل في بعض بلدان المنطقة، حيث يعاني ما يقرب من 69 مليون شخص في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من سوء التغذية وفقا لتقرير الأمم المتحدة لعام 2020، مما يمثل حوالي 9 بالمئة من الإجمالي العالمي، والكثير منها في بلدان مزقتها النزاعات.
نعم، إن الدول والجهات المانحة قد تكون قادرة على شراء الحبوب من مصادر أخرى، لكن ارتفاع الأسعار قد يعيق شبكة من المستوردين تعاني بالفعل من نقص التمويل، وعندما لا تلبَّى الاحتياجات الحالية فمن الصعب أن تتخيل أنك أيها المستورد ستكون قادرا على تأمين هذه الدفعة الجديدة الهائلة اللازمة لتلبية الاحتياجات الجديدة، ناهيك عن أن الاضطرابات في الموانئ الرئيسية في البحر الأسود، المتاخم لكل من روسيا وأوكرانيا، بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف الطاقة، ستؤدي جميعها حتما إلى تعقيد الوضع أكثر وأكثر، مما يجعلنا نقول بوضوح إن المنطقة على وجه التحديد ستكون ضحية كبيرة للصراع الروسي الأوكراني، وسيكون القمح السلعة الأكثر تضررا.
ولا شك سيؤدي ارتفاع أسعار النفط، كما تدل التجارب السابقة، إلى دعم ميزانيات الدول العربية المنتجة للنفط والغاز (والأمر نفسه ينطبق على إنتاج القمح)، أما الدول العربية غير المنتجة للبترول أو القمح ذات الأوضاع السياسية والاقتصادية المهترئة، فستجد أوضاعا أصعب مما هي عليه الآن، إذ إن الطبقات العاملة وغير الميسورة في هذه الدول (سوريا ولبنان وتونس) تجد صعوبة حاليا في تلبية احتياجات عائلاتها.
الأزمة الأوكرانية باتت على العرب والشرق الأوسط بمثابة اللعنة، ففي الأزمة السورية مثلا ومن باب أن روسيا قادرة في كل وقت على استخدام الفيتو كل وقت فذاك قد يعرض 4 ملايين سوري يعتمدون على المساعدة المنقذة للحياة إلى الخطر، ويزيد الضغط بشكل حاد على تركيا، ويمكن أن يؤدي إلى موجة كبيرة من الهجرة القسرية في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهو ما قد يوجه ضربة إلى "الدبلوماسية الإنسانية" لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، ومن المرجح أن يؤدي استخدام روسيا لحق النقض "الفيتو" إلى القضاء على أي آمال في التعاون الجاد بشأن الملف السوري بين الولايات المتحدة وروسيا.
تلك اللعنة أيضا قد تسري على ليبيا، فقد تسعى روسيا إلى زيادة الضغط على أوروبا من خلال تأجيج الصراع في ليبيا، مع هشاشة عملية السلام، وبالمثل يمكن لروسيا أن تستغل تهديد الهجرة غير النظامية من ليبيا لزعزعة استقرار أوروبا، مثلما تسارع اللاجئون من أوكرانيا.
وقد تصل تلك اللعنة ولا شك إلى القضية الإيرانية، حيث يمكن لروسيا أن تعقد الدبلوماسية الدولية بشأن الملف النووي الإيراني، نعم أن غزو أوكرانيا لم يعرقل مفاوضات خطة العمل المشتركة الشاملة في فيينا عن مسارها حتى الآن، لكن المفاوضات الناجحة ستظل تتطلب عملية تنفيذ دقيقة، ويمكن لروسيا أن تسعى إلى لعب دور المعطل متى أرادت ذلك.
في الخلاصة فإن الأزمة الأوكرانية أكدت مجددا ما يعتبر لعنة الجغرافيا التي يعيشها الشرق الأوسط على الدوام، فلا هو يستطيع القيام بشؤونه ولا العالم المتقدم يستطيع الاستغناء عن موارد هذا الشرق المليء بالنزاعات والحروب الأهلية، هذا إذا ما أغفلنا عن قصد أو غير قصد ملفات الإرهاب وانتشار الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، والكثير مما يحتاج أزمنة طويلة لحل بعض تفاصيله، فكيف إذا أضيف إلى كل تلك الكوارث ما سينال ذلك الشرق من أزمة أوكرانيا التي تبعد عنه آلاف الأميال، واليوم باتت هي وكل ما سيلحق بها من مشاكل كارثية أقرب إلى ذلك الشرق من حبل الوريد.