علي ناصر محمد يكتب لـ(اليوم الثامن):
في الذكرى السابعة لاستشهاد القائد علي ناصر هادي
التحق الشهيد علي ناصر هادي بالخدمة العسكرية عام 1960م وتلقى تدريبه في مدارس الجيش وبعد تخرجه التحق بكلية ساندهرست البريطانية عام 1964م، وبعد ذلك التحق بدورة قادة ألوية عام 1978م وتلقى بعد ذلك دورات في أكاديمية عسكرية بجامعة فرانسوا بموسكو عام 1983م وشغل خلال حياته العديد من المناصب العسكرية منها قائد محور الخشعة عام 1995 وآخرها قائد لواء 115 مشاة عام 2002 وأحيل للتقاعد عام 2007م.
وفي بداية عاصفة الحزم عام 2015م عيّن قائداً للمنطقة العسكرية الرابعة وكانت قوات التحالف قد أنزلت عبر الجو مساعدات عسكرية ومالية الى بعض أحياء عدن، وقبلها الى الضالع وشبوة وأبين، وكان كثير من هذه الإمكانيات والمساعدات تذهب الى جيوب البعض من القادة فيما تركت الكثير من المناطق في عدن وغيرها بدون دعم، وهو ما شكى منه اللواء علي ناصر هادي الذي عيّن دون علمه قائداً عسكرياً للمنطقة الرابعة وعلى الرغم من هذا المنصب فإنه لم يصله أي إمداد عسكري أو دعم مالي وهو ما قاله لي في أكثر من مكالمة قبل استشهاده. وهنا أورد نص الحوار بيني وبينه قبل استشهاده بيوم واحد:
هاتفي النقال لم يكف عن الرنين صباح يوم الخامس من مايو 2015م، اعتقدت أن أمراً جللاً قد حدث، أمراً يجعل صاحبه لا ينتظر حتى وقت آخر.. قررت أخيراً أن أرد فإذا المتصل هو اللواء علي ناصر هادي (أبو طارق) قائد المنطقة الرابعة في عدن والذي عُين في هذا المنصب وسط اشتعال الحرب الدائرة فيها، بادرته بكلمة: أهلاً بالقائد..
أجاب بروح مرحة رغم صعوبة الموقف الذي يواجهه في تلك اللحظات الحرجة:
- أيش من قائد؟! وأنا بلا رجال ولا مال ولا سلاح ؟!
شعرت بالمرارة والخذلان في صوته اللذين يحس بهما في كل كلمة وكل حرف ينطق به، وأضاف :
- لقد خذلتنا القيادة. ونحن ندفع الثمن هنا في عدن، وبقية المحافظات، لا شيء يقهر الرجال سوى الخذلان ممن كانوا يثقون بهم، عندما يجدون أنفسهم بدون سند في معركة غير متكافئة...
أخبرني أن كثيراً من الضباط والشباب الأبطال قد استشهدوا خلال المعارك التي دارت في أحياء عدن وهم بصدورهم العارية وبسلاح فردي يواجهون المدرعات والمجنزرات.
عرفت منه أنه يتحدث معي من أمام فندق الصخرة "الروك اوتيل" بالتواهي المطل على مينائها العتيق.. استيقظت ذاكرتي على أوجها، وكذلك عاطفتي ولا أعتقد انهما هدأتا ذلك اليوم، كل شيء يتداخل، الزمان والمكان، وجوه الأصدقاء والرفاق والناس الذين رحلوا، والذين لا يزالون على قيد الحياة، الذين يقاتلون بشرف ويموتون في كبرياء، لكنك رغم الحرائق وصور الدمار ورائحة الموت تستأنس بشباب في عمر الورد ينبثق من بين الرماد كأنهم طائر الفينيق.
هذه المدينة، أبداً لا تموت.. تدفع ثمن موقعها الاستراتيجي، كل جحافل الغزاة من كل لون ونوع زحفوا إليها لكنهم غادروا منها مدحورين... دائماً تنتصر مهما طال الزمان أو غلت التضحية، دائماً تجد روحاً جديرة تستنهضها فتهزم الموت وتنتصر للحياة...
كان صوت علي ناصر هادي يصلني عبر الأثير بعنفوان قائد مقاتل وسط رجاله... قال:
- سنموت من أجل عدن.. نفديها بأرواحنا، ليس دفاعاً عن شرعية أحد ولكن من أجل الوطن...
وكمن يحس بأن النهاية باتت قريبة، قال لي:
- إذا حدث لي شيء واستشهدت، "أمانتك طارق وإخوانه"... اهتم بهم وبأسر الشرفاء الأبطال الذين ماتوا وهم يدافعون عن عدن والوطن..
أخبرني أن وضعهم في الميدان صعب، بل خطير جداً، بعد أن نفذت منهم الذخيرة وقتل الكثير من المقاتلين المدافعين عن المدينة.. وأضاف:
- لم يبق معي سوى هذا الرشاش في يدي. وسألني: ماذا أفعل ؟!
صوت علي ناصر هادي يلح عليٌ بإصرار:
- ماذا نفعل ؟!
قلت له الكلمات القليلة التي وجدتها مناسبه في تلك اللحظة: أنت قائد عسكري، قدّر الموقف واتخذ القرار الذي تراه مناسباً..
كنت خائفاً على حياته وحياة الرجال القليلين من حوله، لكنني لم أتحدث معه أن ينسحب من المعركة بعد أن تُرك وحيداً.. كذلك لم يتطرق حديثي معه عن الاستسلام للطرف الآخر، أو رفع الراية البيضاء تركت له الخيار.. لكنه لم يتوقف عن ترديد "سنموت من أجل الوطن يا أبو جمال.." مثله مثل أي قائد شجاع يفضل الموت على الاستسلام او الهروب.
أجرينا في ذلك اليوم اتصالات كثيرة ولم ينقطع الاتصال معه إلا حين جاءني نبأ استشهاده الفاجع...
كان ذلك الاتصال في الصباح قبل موعدي مع السفير البريطاني الجديد في اليمن في مقر السفارة البريطانية في القاهرة... وكنت طوال المقابلة أفكر بما قاله لي "إذا حدث لي شيء فاهتم بطارق وإخوانه"..
وقد استشهد في اليوم التالي مباشرة، وكأنه كان يتنبأ بمصيره.. اتصلت في التاسعة، صباح اليوم ذاته، بهاتفه دون ان أتلقى منه أي رد ولم أكن أعلم بأنه استشهد قبلها بساعة واحدة فقط.. وفي التاسع من مايو، حوالي الساعة الثامنة مساءً اتصل بي نجله الأكبر طارق، وأخذ يقدم لي العزاء في استشهاد والده بدل أن أعزيه أنا به.
وعلمت لاحقاً أنه قبل استشهاده حاول ابنه ومن معه اقناعه بالخروج الى البريقة ولكنه رفض، وحاولوا أخذه عنوة عبر زورق، حيث إن البريقة كانت أكثر أماناً من التواهي. فقال لابنه: إذا أخذتموني الى البريقة فإن أول رصاصة سأوجهها لك.
أصابني ذلك بالحزن الشديد، ليس عليه وحده، بل على كل الشهداء الذين سقطوا في ميادين القتال وهم يدافعون عن مدينتهم، عن أحيائهم، عن وطنهم وذويهم. هؤلاء اختاروا القتال والموت بشرف، وسيخلد التاريخ بطولاتهم وتضحياتهم الغالية بأعز وأغلى ما يملكون بعكس أولئك البعض الذين يتباكون على عدن دون أدنى شعور بالمسؤولية الوطنية او حتى الأخلاقية..
نعم هذا ما تفعله الحروب، لا تخلف غير الدمار والخراب.. سوى المآسي والويلات والدم والدموع والآلام والجراح التي لا يمكن أن تندمل بسهولة، سوى الأحقاد والثارات، وما نراه من صور الحرائق والدمار والموت المتنقل خير دليل على ذلك...
لقد حذرنا من الحرب في اليوم الأول وطالبنا بالاحتكام إلى الحوار كسبيل وحيد لحل الخلافات. وقلت، ما سبق وقلته مراراً وتكراراً، أن المنتصر مهزوم في هذه الحرب وأن الحسم العسكري حسم مؤقت.. وأن الحل يجب أن يكون سياسياً..
وبعد خمس سنوات من استشهاده ومن هذه الحرب التي عصفت بالبشر والحجر والشجر وتسببت في كارثة انسانية لم يشهد لها اليمن في تاريخه مثيلاً، فقد انهارت الدولة ومؤسساتها وأصبح في اليمن أكثر من رئيس وأكثر من حكومة وأكثر من جيش وأكثر من 20 مليون يمني تحت خط الفقر وشرد الملايين الى خارج الوطن.