ماجد السامرائي يكتب:
لا حاجة للعراقيين بقانون يجرم التطبيع مع إسرائيل
تاريخيا وسياسيا لا أحد من شعوب العرب وسياسييه غير الفلسطينيين أكثر من شعب العراق تمسكا بعروبتهم وبقضية فلسطين.
منذ بدء نكبة فلسطين وخلال وبعد الحرب الخاسرة عام 1948 شهدت أرض فلسطين قيم التضحية التي عبّر عنها المقاتلون العراقيون من أجل استعادة الأرض الفلسطينية المحتلة من المغتصب الصهيوني، لكن الإرادة الاستعمارية ومهادنة وتخاذل الأنظمة العربية منعت ذلك.
نصب ومقبرة شهداء معركة فلسطين في جنين التي تضم جثامين 44 عراقيا شاهد على ذلك.
شارك العراق أيضا في حرب 1967 التي أدت إلى النكسة والهزيمة مرة ثانية أمام إسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة وأوروبا والعالم. مقبرة شهداء الجيش العراقي في مدينة المفرق الأردنية تشهد كذلك على تضحية العراقيين. اندفاع الجيش العراقي إلى الأراضي السورية لحماية دمشق من السقوط الحتمي بيد الجيش الإسرائيلي عام 1973 وقصة انتقال الدبابات العراقية بوقت قياسي على السرفة (عجلات الدبابات) معروفة أيضا.
كانت لدى القيادة العسكرية العراقية المتواجدة في سوريا خطة لتحرير الجولان، التي سبق للرئيس السوري حافظ الأسد أن سلمها لإسرائيل حين كان وزيرا للدفاع، لكنها فوجئت بوقف إطلاق النار المدبّر مع القيادة المصرية. الجولان حتى هذا اليوم بيد إسرائيل. مثال واحد على مشاركة العراقيين على الجبهة المصرية استشهاد أحد الطيارين العراقيين الشجعان.
وُصِف النظام العراقي (1968 – 2003) بأنه بالغ في التمسك بحق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه، مقدما للأنظمة العربية مشاريع للصمود والمواجهة، بعد عزل نظام التطبيع الأول في مصر السادات نهاية عام 1977، لكن المراوغات السياسية والكذب والتواطؤ الخفي لأنظمة “الصمود والتصدي” سوريا وليبيا واليمن، إلى جانب قوى المساومة في منظمة التحرير الفلسطينية، كانت السبب في فشل تلك المشاريع.
ملف لا يشكل حاجة شعبية عراقية ملحّة أمام حالة التداعي والتدهور في ملفات عاجلة تتطلب قوانين جريئة في تحريم التداول والتعاطي بالطائفية ومحاصرة الفاسدين ونزع سلاح الميليشيات الولائية
وحاولت الدولة العراقية بناء مشروع نووي جاد لخلق تنمية حقيقية وتوازن للقوة في المنطقة، لكن التعاون الغربي ونفوذ إسرائيل الاستخباري في فرنسا أسقط هذا المشروع منذ المراحل الأولى لبنائه بضربة عسكرية إسرائيلية عام 1981. اليوم يحاول سياسيو بغداد المطالبة بالتعويض وفق قرار مجلس الأمن الدولي لكي تنفتح أمامهم منافذ للنهب تضاف إلى المليارات من عائدات النفط.
أولويات إسرائيل أمنها. وهي قضية ليست للمزاح، ولم تعد فكرة التطبيع مع مصر والهدنة الأبدية الرديفة للتطبيع مع سوريا كافية. ولا تتردد إسرائيل بعد أن قوي عودها إثر هزيمة العرب عام 1967 وحرب 1973 في التخطيط مع القوة الأميركية الصاعدة في التفرّد في العالم لإزاحة أي نظام عربي إذا ما تبيّنت لها جدّيته مع أشقائه العرب في بلورة مشروع سياسي يعيد الأرض الفلسطينية المحتلة بعد عام 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية وفق القرار الدولي 242 وعاصمتها القدس الشرقية.
دخل نظام خميني 1979 في معادلة الوجود الإسرائيلي، وكانت اللعبة عميقة ومتقنة.. مخادعة تم تمريرها ومازالت فاعلة في الذهن الجمعي العربي المحبط من خلال التظاهر بمعاداة النظام الإيراني لإسرائيل. حتى أن هذا النظام لوّح بأن تحرير القدس لن يمر إلا عبر كربلاء بعد إسقاط نظام الحكم “البعثي الكافر”. بينما الحقيقة تؤكد أن إسرائيل ومعها الإدارة الأميركية حمت نظام خميني من السقوط على أيدي الإيرانيين خلال الحرب مع العراق. والشاهد فضيحة إيران غيت.
أصبح هدف إزاحة النظام في العراق مشروعا جدّيا لأهميته الاستراتيجية في المنطقة؛ بلد غني وعقل نخبوي متقدم وشعب لديه مرتكزات عروبية حقيقية. كان المشروع بحاجة إلى التفصيلات اللوجستية. وكان الهدف الإسرائيلي – الأميركي – الإيراني في ما بعد تدمير جيشه بافتعال حروب مع جيرانه، تم استدراج نظام صدام إليها، وسحق الشعب العراقي بتجويعه عبر حصار 16 عاما ثم الانقضاض السهل على نظامه.
في الأيام الأولى لاحتلال العراق 2003، بعد إسقاط دولته وحل جيشه الوطني وإشاعة الفوضى العامة، كان هدف فرق الموت، الموجهة إسرائيليا وإيرانيا بوثائق منشورة وقوائم مُعددة، اقتناص العلماء العراقيين في ميادين السلاح وعلوم الذرة والكيمياء وغيرها، كذلك القادة العسكريين الذين شاركوا في الحرب مع إيران.
نظام أحزاب الفساد والعمالة بعد عام 2003، وبتوجيه مباشر من النظام الإيراني، ضيقوا على الفلسطينيين الذين عاشوا منذ النكبة الأولى عام 1948 في العراق. ووزعت عليهم، خاصة في بغداد، البيوت التي تؤوي أسرهم، وتعايشوا مع العراقيين باحترام ومحبة. ثم صدرت القوانين العراقية بمساواة الفلسطينيين للعراقيين بجميع الحقوق عدا الاحتفاظ بالجنسية الفلسطينية.
الإجراءات المتبعة كانت قاسية في حملات تهجير الفلسطينيين من العراق من قبل قادة الأحزاب أنفسهم الذين دفعوا الآن لتشريع قانون تجريم التطبيع مع إسرائيل. تذرعوا في طرد الفلسطينيين من العراق بحجج طائفية وسياسية كاذبة، كتعاطف الفلسطينيين مع النظام السابق. هم لم يختلفوا عن حكام الكويت الذين طردوا الفلسطينيين المقيمين بنفس الحجج الكاذبة. تحمّل الفلسطينيون صنوف العذاب والتشرّد نتيجة هذه القرارات الجائرة التي تكشف الخدعة الحالية بدعوى تجريم التطبيع مع إسرائيل.
عرف عن العراقيين ونظامهم قبل عام 2003، اندفاعهم القومي العروبي غير المبرر في الدفاع عن دول الخليج التي كادت تسقط، أولها الكويت في اندفاعة الحرس الثوري الإيراني وإنذار رئيس النظام الإيراني هاشمي رفسنجاني للكويتيين بالاستعداد لاستقبال الجيش “الفاتح” في حرب شرق البصرة عام 1985. صمد خط الدفاع البشري العراقي وهزم الغزاة وكان الثمن عشرين ألف شهيد. لكن الكويتيين طالبوا العراق بالأموال التي اعتبروها ديونا وكانت سببا في غزو الكويت الأرعن كمقدمة للانهيار التام للدولة العراقية عبر الغزو.
بالمقابل، ماذا قدم العرب لشعب العراق غير التنّكر لأواصر العروبة والتورط في المشاركة في تدميره، بعد أن تحالفت ضده قوى الشر والكراهية بغض النظر عن سياسة نظامه. القسم الأكثر حقدا وثأرا من العرب سهلوا بسابق إصرار مهمات الاحتلال الأميركي اللوجستية للقتل والتدمير. وأكثرهم قسوة حكام الكويت الذين أخذوا يتشفون بما حلّ بالعراق في وسائل الإعلام. والقسم الآخر تفرجوا، ومازالوا، على ما يعيشه العراق من مأساة وكوارث تجويع وتجهيل ونكبة احتلال إيراني بشع مستمر.
هناك تفصيلات كثيرة تحمل تناقضات ومطبّات ستواجه النظام السياسي القائم وحكومته في ميادين كثيرة، كالتعاطي مع الشركات العالمية التي أغلبها لديه علاقات مع إسرائيل
هل يتوقع عاقل ومُنصف، وفق أدنى معايير قيم العدالة والحقوق، أن تُبقي هذه الكارثة القاسية المستمرة منذ عشرين عاما الحد الأدنى من مقومات العروبة والتعاطف مع القضية الفلسطينية في نفوس المنكوبين العراقيين، إلا بمقدار الشراكة بمأساة واحدة هي الاحتلال الأجنبي للأرض. بل يمكن القول إن ما يعيشه العراقيون أقسى وأمرّ مما يعيشه إخوتهم الفلسطينيون.
منطق القيم وأواصر العروبة تقول بضرورة التضامن مع شعب العراق ودعم قضية حريته وخلاصه من القتلة والفاسدين، وليس دعم نظامهم واستمرار تأهيله، لأن الكبار يريدون ذلك، ولأن البلد أصبح بيد طهران. وفي جدلية متناقضة يتحدثون في وسائل إعلامهم عن مخاطر إيران على المنطقة، لكنهم يهادنون استباحتها للعراق رغم أنهم سيواجهون ذات المصير في وقت ليس ببعيد.
الفاسدون السياسيون في العراق الموالون للنظام الإيراني وسياساته وشعاراته الكاذبة لتحرير فلسطين، حيث لم يطلق النظام رصاصة واحدة ضد إسرائيل، يتلاعبون بالمشاعر والعواطف القومية وقضية فلسطين في تضليل متعمد للرأي العام، رغم أنها لعبة باردة سمجة.
يتبجح هذه الأيام المسؤولون السياسيون في بغداد الموالون لإيران من مدعي المقاومة بتعزيز حق فلسطين عبر القرار البرلماني الجديد المفاجئ بتجريم التطبيع مع إسرائيل، في حين كان بعضهم يحملون على أكتافهم سلاحا إسرائيليا قاتلوا به الجيش العراقي إلى جانب جيش خميني (الحرس الثوري) خلال الحرب العراقية – الإيرانية.
تفصيلات اللعبة الجديدة في تشريع قانون تجريم التطبيع مع إسرائيل لا علاقة لها بالمبدئية والعروبة الحقيقية في رفض العراقيين للتطبيع مع إسرائيل، بل هي مشروع سياسي تكتيكي داخلي دفعت به طهران لوكلائها ببغداد (الإطار التنسيقي) في فترة احتقان سياسي طائفي، للضغط على مقتدى الصدر وتوريطه للانسياق في إحراجات سياسية وإعلامية خارجية قد تدفعه إلى التخلي عن قيادة العملية السياسية مع حلفائه من الأكراد والسنة. هذا هدف مهم لكنه رخيص ومكشوف لدى المراقبين السياسيين.
ملف لا يشكل حاجة شعبية عراقية ملحّة أمام حالة التداعي والتدهور في ملفات عاجلة تتطلب قوانين جريئة في تحريم التداول والتعاطي بالطائفية ومحاصصة المكونات في سلطة الحكم ومحاصرة الفاسدين ونزع سلاح الميليشيات الولائية، التي هي في الواقع أكثر ضررا وسوءا من تأثيرات إسرائيل على المواطن العراقي.
قانونيا لا يحتاج العراق إلى تشريع قانوني جديد لتجريم التعاطي والتطبيع الحكومي والفردي مع الكيان الإسرائيلي، لأن قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 الساري المفعول، والذي يعتبر مرجعية قانونية لا تقل أهمية عن الدستور، في مادته 201 قرر معاقبة المُطبّع مع إسرائيل بالإعدام حيث استبدلها القانون البرلماني الجديد بالمؤبد.
وفق القانون الجديد تم السماح بالزيارات الدينية المتبادلة بين العراق وإسرائيل بعد أن كانت ممنوعة، وهي خطوة يفسرها بعض المتابعين بأنها تطبيع فعلي على طريقة “المسار الإبراهيمي”.
هناك تفصيلات كثيرة تحمل تناقضات ومطبّات ستواجه النظام السياسي القائم وحكومته في ميادين كثيرة، كالتعاطي مع الشركات العالمية التي أغلبها لديه علاقات مع إسرائيل.
الأخطر سياسيا ردود الفعل الأميركية والبريطانية الغاضبة الصادرة عن أعلى المستويات في الدولتين، الخارجية والبرلمان الأميركي والبريطاني، وما سيلحقها من احتجاجات، قد تؤدي إلى تداعيات غامضة من بينها رفع الثقة والأهلية عن النظام القائم، وإذا ما حصل ذلك فهو فاتحة خير على العراقيين.