الحبيب الأسود يكتب:

تونس بين أخطاء الدستور والصعود الشاهق في التاريخ

فسح الرئيس التونسي قيس سعيد المجال أكثر أمام مناهضي مشروعه ليفاقموا انتقاداتهم لسياساته، لاسيما تلك التي دشّنها في الخامس والعشرين من يوليو 2021، عندما أطلق تدابير استثنائية اعتبروها انقلابا على الدستور والشرعية، وسعوا بكل جهدهم إلى تحريض الأطراف والقوى الفاعلة في الداخل والخارج ضدها.

حديث الرئيس في كلمته إلى الشعب بمناسبة عيد الأضحى عن أخطاء تسربت إلى مشروع الدستور الذي تم نشره، والمعروض على الاستفتاء يوم الخامس والعشرين من يوليو، يؤكد أن هناك خللا كان من الممكن تلافيه لو أنه اعتمد على فريق من الأكفاء في الصياغة القانونية واللغوية، أو أنه اعتاد الاستماع إلى مستشارين يثق بخبراتهم.

الرئيس سعيد قال إن هناك أخطاء في الشكل وأخرى في الترتيب، وجب تصويبها، واعتبر أن هذا الأمر مألوف في نشر سائر النصوص القانونية وفي الأحكام والقرارات القضائية. لكن كان عليه أن يقف طويلا أمام طبيعة ما حدث، فالأمر يتعلق أولا بمؤسسة الرئاسة، وبمشروع الدستور الذي بات تمريره يمثّل تحديا كبيرا على طريق تجربة الإصلاح السياسي التي يتزعمها الرئيس في اتجاه بناء أسس ما وصفها بالجمهورية الجديدة، تأكيدا على حالة الصعود الشاهق في التاريخ التي يتم التركيز عليها في أدبيات المرحلة القادمة.

وتلك الأخطاء لا يمكن إغفال أمر مهم بشأنها، وهي أنها وردت في نص يحمل توقيع رئيس يحمل بالأساس صفة أستاذ القانون الدستوري في الجامعات التونسية وخبرة 30 عاما، ومعروف لدى شعبه أنه يعتمد اللغة العربية التقليدية، كتابة وحديثا، ويستعملها في خطاباته اليومية، حتى أنها كانت من أسباب شعبيته التي بدأ يكتسبها منذ العام 2011 بظهوره في وسائل الإعلام كخبير في مجاله الأكاديمي.

الشعب التونسي لن يهتم كثيرا لوجود أخطاء في اللغة، أو لوجود غموض في المواد، أو اتجاه لتكريس حكم الفرد. ولا يبدو الشعب مهتما بما يقوله المعارضون

من أبعاد مشكلة الأخطاء تلك، أنها أثبتت للمراقبين أن الرئيس سعيد لا يعتمد على مساعدين في كتابة النصوص الصادرة عنه والمتعلقة بخطبه وكلماته وحتى بتغطية نشاطاته. وعندما تعلق الأمر بالدستور، استبعد المسودة التي تسلمها من رئيس الهيئة الاستشارية المكلفة بكتابته، الصادق بلعيد، واعتمد النص الذي كتبه بنفسه ويعبّر عنه وعن فكره وعقيدته ومشروعه. وهو نص لم تتم حوله أيّ استشارة قبل نشره، ولم يشارك أيّ طرف سياسي أو اجتماعي في كتابته، بمن في ذلك أولئك الذين يدعمونه بقوة. وهو في كل الحالات من نوع النصوص الفكرية العقائدية التي كان بعض الزعماء في القرن العشرين يدوّنوها ويجعلون منها مرجعيات للحكم في بلدانهم. وهي في العادة تعبّر عنهم وعن مشاريعهم وليس عن خيارات توافقية شعبية جامعة.

ولعل من يطّلع على توطئة مشروع الدستور الجديد، يجد فيه ما يؤكد أنه ينحو في اتجاه أن يكون نصّا لا يعبّر إلا عن قناعات الرئيس سعيد ومناصريه. حيث تطغى عليه الصبغة الإنشائية واستعمال مصطلحات تهدف إلى تكريس صورة الزعيم المنقذ والملهم، وذلك من خلال وضع ما سمته التوطئة حركة التصحيح في نفس الأهمية التاريخية والحضارية مع حركة التحرّر الفكري والتحرّر الوطني وصولا إلى انتفاضة السابع عشر من ديسمبر 2010 التي اندلعت إثر إقدام محمد البوعزيزي على الانتحار بإضرام النار في جسده بمدينة سيدي بوزيد. وشهدت أوجها بالإعلان عن الإطاحة بالنظام السابق. وهو الحدث الذي أراده المعارضون وراكبو الحراك الشعبي من الإسلاميين واليساريين ليكون بدء مرحلة الانقلاب على الدولة الوطنية التي أسسها الزعيم الحبيب بورقيبة ورفاقه منذ إعلان الاستقلال الوطني في مارس 1956 وقيام النظام الجمهوري على أنقاض 250 عاما من الحكم الملكي الحسيني.

لا شك في أن الدستور الجديد يحمل في طياته مشروع دولة غير التي عرفها التونسيون منذ الاستقلال، ونظاما مختلفا عما كان سائدا، ورؤية سياسية وثقافية وحضارية واجتماعية لم يسبق للتونسيين أن عرفوها، وهي تعبّر بالأساس عن خلفية الرئيس قيس سعيد وقناعاته ورؤاه وتطلعاته وعن أحلامه التي طالما رافقته في مسيرة حياته منذ أن كان طالبا، وتطورت معه وهو أستاذ جامعي، ووجد الظروف الملائمة لترجمتها عمليا عندما توفرت له الفرصة وفاز بكرسي الرئاسة في حدث فريد وجدير بالدراسة، وسيعمل على تجسيدها على أرض الواقع خلال المرحلة القادمة.

سيجد قيس سعيد من يدعمه ويسانده ويتبنى مشروعه، ويساعده على المسك بجميع الآليات التي يحتاجها لتثبيت النظام الجديد الذي سيبنى على أفكاره، ومن ذلك مثلا انتخاب مجلس الجهات والأقاليم الذي سيرسّخ رؤيته للوظيفة التشريعية عبر الانتخابات المحلية كمشروع لتصعيد ممثلي المناطق إلى أعلى هرم المسؤولية، على أن تبقى عضويتهم للمجلس خاضعة لسلطة الجماهير القادرة على فصلهم بتوفر النصاب لذلك، وعلى الشركات الأهلية التي ستتحول إلى ظاهرة اقتصادية تضع المبادرة في أيدي الجموع، بعد أن يتم لجم حالة الجشع لدى أقلية كانت تسيطر على الاقتصاد التونسي.

قيس سعيد يتجه إلى وضع الدستور الذي يراه مترجما لرؤيته للحكم أمام التصويت الشعبي في يوم الاستفتاء الذي سيكون امتحانا حقيقيا له وللتونسيين وللدولة بكل مكوّناتها

ضمّن الرئيس سعيد الدستور الجديد كل ما يراه ملائما لمشروعه السياسي. وإذا كان قد شرّع لتطويع جميع الآليات تقريبا لخدمة هذا المشروع، فإنه يهدف إلى تجسيد الجمهورية الجديدة كما يراها وكما يطمح إليها، وبالتالي فهو لا يتراجع عن مواقفه وطموحاته، ولا يتخلى عن رؤيته للنظام الديمقراطي القاعدي الذي يتأسس عمليا على صورة زعيم يتولى قيادة الجماهير لممارسة السلطة، والذي يتميز بأن له قراءته الخاصة للديمقراطية، إذ أن المسار الديمقراطي المرتقب سيكون ثوريا شعبيا قاعديا تشاركيا لا علاقة له بالنظام الديمقراطي على الطريقة الغربية الذي ساد خلال عشر سنوات قبل اتخاذ التدابير الاستثنائية في الخامس والعشرين من يوليو 2021.

الأخطاء التي تسربت إلى مسودة الدستور وتولى الرئيس سعيد تصحيحها والإعلان عنها الجمعة الماضي، كانت في الأساس وليدة المنحى الذي يعتمده شخصيا في إدارة شؤون المنصب الذي يتولاه، لكنها أعطته المبرر لإعادة صياغة بعض المواد التي تعرضت للانتقاد دون أن يزيل عنها الغموض الاصطلاحي الذي يكتنف بعضها. وبالمقابل، منحت معارضيه فرصة التشكيك في جدية خياراته، حيث لم يتعود التونسي في عهد الدولة الوطنية بقيادة الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي الذين ربط الدستور الجديد عهديهما بالظلم والاستبداد والتجويع والتنكيل في كل مرافق الحياة، على نشر بيانات أو قرارات أو خطب رئاسية تشوبها أخطاء لغوية كتلك التي تم تصحيحها في النسخة المنقحة، أو على أن يقوم شخص واحد بكتابة مسودة الدستور بالصورة التي تجسّد خياراته وتصوراته، ولا يعرضها حتى على مصححي اللغة لتصحيح ما يجب تصحيحه.

لكن، كل ذلك لا ينفي أن الرئيس سعيد وصل إلى السلطة بإرادة الشعب، وقاد الحركة التصحيحية بدعم من الشعب، وعجز معارضوه عن تحريك الشارع ضد مشروعه التصحيحي. وهو يتجه إلى وضع الدستور الذي يراه مترجما لرؤيته للحكم أمام التصويت الشعبي في يوم الاستفتاء الذي سيكون امتحانا حقيقيا له وللتونسيين وللدولة بكل مكوّناتها.

الشعب التونسي لن يهتم كثيرا لوجود أخطاء في اللغة، أو لوجود غموض في المواد، أو اتجاه لتكريس حكم الفرد. ولا يبدو الشعب مهتما بما يقوله المعارضون، ولا حتى للمصاعب التي تعترض مسيرة حياته اليومية. وقد يكون ذلك أفضل إطار يحقق من خلاله الرئيس سعيد هدفه وينفذ مشروعه، ليس في حكم البلاد فقط، وإنما كذلك في رسم ملامح الدولة التونسية للمرحلة القادمة، ويقدم للعالم ما يعتبره أنصاره فجرا جديدا للإنسانية ونظاما يليق بالصعود الشاهق غير المسبوق في التاريخ.