الحبيب الأسود يكتب:

إلى متى…. وإقليم فزان يدفع الثمن؟

ما حدث في منطقة الزاوية ببلدية بنت بيّة من انفجار مروع لصهريج وقود أدى إلى مقتل وإصابة العشرات، يجسّد مأساة فزّان وعموم الجنوب الليبي المهمّش والمظلوم والمحروم في كل العهود، ويكشف عن طبيعة الضيم الاجتماعي والاقتصادي في بلد كان بإمكانه، لو صدقت نوايا صانعي القرار فيه، أن يوفّر الاكتفاء والرخاء لكل أبنائه، وأن يتحول إلى واحد من أغنى وأبهى دول المنطقة والعالم.

سيذكر أهالي فزان حادثة انفجار الصهريج في الأول من أغسطس 2022 كجريمة دولة بشعة في حقهم، فالإقليم الغني بالنفط والغاز لا يزال يعاني من شح الوقود بعد أن سيطرت على مسالكه وإمداداته شبكات التهريب التي لا يمكن فصلها عن دوائر الفساد في مؤسسات الحكم، كما أن انهيار منظومة الخدمات بشكل يكاد يكون كليّا زاد من معاناة السكان المحليين، وهو ما دفع المصابين بحروق جراء الانفجار إلى حالة مأساوية من الصعب تحمّلها وبوضعيتهم الصحية إلى التأزم أكثر في غياب أجهزة الإطفاء والإسعاف والنقل السريع إلى المراكز الطبية، وجعل الجهات الحكومية المتنافسة على استغلال الحادثة سياسيا تبحث عن بديل خارجي لإنقاذ المصابين، فكان الاتجاه إلى تونس ومصر وإيطاليا وتركيا، وكانت المزايدات من أكثر من طرف وعلى أكثر من صعيد، بما يشير إلى طبيعة الفشل الذريع الذي عرفته ليبيا ليس خلال السنوات العشر الماضية ولكن منذ قيام دولتها الوطنية قبل 70 عاما كان إقليم فزان فيها عرضة للإهمال والتهميش.

تبلغ مساحة الإقليم 551.170 كم مربع، ولا يتجاوز عدد السكان 500 ألف نسمة من عرب وتبو وطوارق، ولا تكاد الكثافة السكانية تصل إلى 0.80 كم مربع، ومن يدخل فزان سيجد نفسه في حالة ذهول أمام الثراء الطبيعي والتنوع الحضاري وتميز الآثار التي تروي تاريخ المنطقة منذ آلاف السنين، كالرسوم الصخرية الموجودة على جبال الأكاكوس والمدرجة على قائمة التراث العالمي، والتي يعود أقدمها إلى 21 ألف عام تقريبا، وتتدرج حتى القرن الأول الميلادي، حيث تعكس هذه الرسوم مراحل التطور والتعديلات التي طرأت على الثروة الحيوانية والنباتية وكذلك أنماط الحياة المتنوعة للشعوب التي تتالت عبر الصحراء الكبرى

حادثة انفجار صهريج الوقود ليست أول جريمة دولة ترتكب في حق أهالي فزان وسيكون على السكان المحليين الانتباه إلى الواقع المفروض عليهم والعمل على تغييره ورد الاعتبار إلى أنفسهم وحقوقهم المهدورة

يتميز الإقليم كذلك بالأهرامات التي لا تزال قائمة بمنطقة الحطية، والتي بنيت قبل 3000 عام بالطين والملح والقليل من الحجر، ولا تزال إلى اليوم على حالها، وقد تم اكتشافها في خمسينات القرن الماضي، مردومة في الرمال، وكذلك المومياوات، ففي العام 1958 تم اكتشاف المومياء “وان موهى جاج”، أو المومياء السوداء، وبعد 50 عاما، عثرت بعثة تنقيب على مومياء ثانية طولها 2.25 متر، فيما يقول المتخصصون إنه بالإمكان العثور على مومياوات أخرى في حالة الاهتمام بهذا الجانب المهم من التراث التاريخي العريق في منطقة لا تزال مجهولة حتى لدى أهلها.

من “بحيرة الدم” إلى “كهف الجن” إلى “وادي الكواكب” وغيرها من المواقع التي لا يوجد لها مثيل على كوكب الأرض، والتي يمكن أن تتحول إلى وجهة سياحية مهمة، وإلى أستوديو طبيعي للسينما العالمية، تتعدد وتتنوع مصادر الإبهار في فزان التي تمتد نحو الحدود المشتركة مع الجزائر والنيجر وتشاد، وتمثّل جسر التواصل بين شمال أفريقيا ووسطها.

تاريخيا، ارتبطت فزان بمحيطها الأفريقي، استوطنها الجرمنت وضمها الفينيقيون إلى إمبراطوريتهم القرطاجنيّة، واحتلها الرومان، ثم دخلها العرب المسلمون، وفي القرن العاشر ميلادي تكونت في منطقة زويلة دولة بنى خطاب التي كانت تابعة للدولة الفاطمية وعاصمتها المهدية في تونس، خلال القرنين الـ13 والـ14 الميلاديين، كانت فزان جزءا من إمبراطورية كانم التي امتدت على مساحة تشمل تشاد ونيجيريا وشرق النيجر وشمال شرق نيجيريا وشمال الكاميرون، وفي العام 1550 تشكلت دولة أولاد إمحمّد نسبة إلى مؤسسها الشيخ إمحمد الفاسي وهو ينتمي إلى الأسرة الإدريسية بالمغرب الأقصى، واتخذت من مدينة مرزق عاصمة لها، واستمر حكمها حتى العام 1813 عندما سيطر عليها العثمانيون بعد حروب عدة، وفي العام 1911 احتلت فزان من قبل إيطاليا، إلا أن سيطرتها على المنطقة لم تكن مستقرة حتى العام 1923 حين صعدت الفاشية إلى الحكم في إيطاليا. ووجه الإيطاليون بالمقاومة في محاولاتهم الأولى أثناء الغزو من قبل القبائل والقوات التابعة للحركة السنوسية، وخلال الحرب العالمية الثانية قامت قوات فرنسا الحرة بطرد القوات الإيطالية واحتلال مرزق في فزان في السادس عشر من يناير 1943، وظلت المنطقة تحت السيطرة الفرنسية حتى 1951، عندما أصبحت ولاية فزان بعد ذلك جزءا من المملكة الليبية المتحدة بعد استفتاء أعلن على إثره الملك إدريس السنوسي المملكة الليبية المتحدة كنظام فيدرالي في الرابع والعشرين من ديسمبر 1951، ومنذ ذلك التاريخ تولت أسرة سيف النصر حكم الإقليم فتحول مركز العاصمة من مرزق إلى سبها واستمر الوضع إلى العام 1963 عندما تم إلغاء النظام الفيدرالي.

لا تزال نسبة مهمة من أبناء فزان وخاصة من القبائل العربية والطوارق موالية للنظام السابق ومدافعة عنه بقوة، وعندما قرر سيف الإسلام القذافي الترشح لخوض السباق الرئاسي عام 2021 اختار أن يتقدم بملف ترشحه من مدينة سبها عاصمة الإقليم، ولكن ذلك لا يعني أن الجنوب كان مستفيدا من فترة حكم القذافي كما يعتقد البعض، فجميع المؤشرات تؤكد أن المستفيدين الحقيقيين هم من انتفضوا على نظامه ونفذوا خطة الإطاحة به، أما موالاة الجنوب فهي مرتبطة أساسا بتوازنات قبلية وثقافية وإثنية في المنطقة وعبر امتداداتها في دول الجوار.

وإقليم فزان أحد أهم مراكز إنتاج النفط، خاصة من حقلي الشرارة والفيل بحوض مرزق حيت يتم إنتاج حوالي 500 ألف برميل يوميا، مع مخزون هائل غير مستغل من الغاز الصخري، ومن صحرائه تنفجر ينابيع الماء العذب لتجري في الأنابيب المتجهة إلى الشمال من خلال منظومة النهر الصناعي، يضاف إلى ذلك احتياطي ضخم من الحديد يصل إلى 3.5 مليار طن خاصة في منطقة تاروت ببراك الشاطئ شمال سبها.

إقليم فزان مؤهل لأن يكون عنوانا لمستقبل ليبيا فكل ما فيه يعطيه قيمة استثنائية ويمكنه من القدرة على تكريس وجوده المتميز كعامل ثراء ضمن ليبيا الواحدة أو الموحّدة

ويحوي الإقليم مادة اليورانيوم في العوينات الغربية بالقرب من غات، الحدودية مع الجزائر، مع شواهد للذهب والمنغنيز في جبال تيبستي على الحدود مع تشاد، وخلال السنوات الماضية كانت مناجم الذهب قد تحولت إلى نهب للشبكات العابرة للحدود، كما توجد العناصر النادرة، التي تدخل في الصناعة الإلكترونية المتطورة مثل الهواتف الذكية ومكبرات الصوت والخلايا المستخدمة في صناعة الألواح الشمسية.

حتى العقارب التي تشكّل خطرا يوميا نظرا لكثرتها وشراستها، يمكن اعتبارها ثروة مهمة مهملة، فسم العقرب القاتل، هو أغلى مادة سائلة في العالم، ويبلغ ثمن الغالون الواحد منه 39 مليون دولار أي أن تكلفة الحصول على قطرة واحدة تبلغ 130 دولارا.

أهمية الموقع والثروات جعلا إقليم فزان في قلب صراع دولي وإقليمي لفرض الهيمنة، وهو صراع تشترك فيه الولايات المتحدة وروسيا والصين، وبالأساس فرنسا التي تعتبره أحد أعمدة حضورها المهدد في منطقة الساحل والصحراء، وكذلك إيطاليا التي تعرف قيمة الإقليم وتسعى للاستفادة من ثرواته، والأهم بالنسبة إليها قطع طريق العبور منه إلى منطلقات الإبحار نحو جزرها من قبل المهاجرين غير الشرعيين القادمين من وسط وجنوب أفريقيا.

وفي الداخل، يعاني الإقليم من التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي ويوضع دائما في ذيل الاهتمامات وفي آخر لوائح توزيع المسؤوليات الحكومية نظرا لأنه الأقل من حيث عدد السكان، وبالتالي فهو الأكثر عرضة للظلم من خلال منظومة التقسيم الفيدرالي طالما لم يتكمن أهله من الاستفادة من ثرواتهم الواسعة في ظل احترام كامل لتنوعهم الثقافي والحضاري.

إقليم فزان مؤهل لأن يكون عنوانا لمستقبل ليبيا فكل ما فيه يعطيه قيمة استثنائية ويمكنه من القدرة على تكريس وجوده المتميز كعامل ثراء ضمن ليبيا الواحدة أو الموحّدة، كما أن تصرفه في ثرواته يمكن أن يجعله مجالا للرخاء والاكتفاء، وبالتالي للخروج من وضعيته المزرية الحالية ومن حالة التهميش المتعمد من دوائر القرار المركزي.

إن حادثة انفجار صهريج الوقود ليست أول جريمة دولة ترتكب في حق أهالي فزان، ولكنها حلقة من مسلسل المأساة المتواصلة، وسيكون على السكان المحليين الانتباه إلى الواقع المفروض عليهم والعمل على تغييره وإعادة الاعتبار لأنفسهم وحقوقهم المهدورة، بالاعتماد على كفاءاتهم وإمكانياتهم وقبل ذلك الاستفادة من فشل السلطات المركزية في طرابلس في القيام بدورها خلال السنوات الماضية، وتحويله إلى واعز لبناء أسس فزان كإقليم ثري وقوي وناهض وقادر على حماية نفسه وبناء كيانه فوق الأرض وتحت الشمس.