محمد أبوالفضل يكتب:
ما بعد مؤتمر المناخ في شرم الشيخ
لا ينشغل الكثير من المصريين بمؤتمر المناخ وجدول أعماله وأنشطة المشاركين فيه، والذي بدأت فعالياته الأحد في مدينة شرم الشيخ وتستمر حتى الثامن عشر من نوفمبر الجاري، لكنهم يترقبون التطورات الاقتصادية والسياسية في المرحلة التالية عليه.
فهناك ملفات رئيسية أشبه بمؤشر لطبيعة الموقف الذي سيتعاملون معه عقب انتهائه، منها الآليات المستخدمة لتخفيف حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ومدى قدرة الحكومة الحالية على تحمل مهمة إيجاد مخارج مناسبة قبل اللجوء إلى تغييرها ومن ثم تحميلها جانبا من المشكلات التي حدثت خلال الفترة الماضية.
كما أن الأحزاب وقوى المعارضة التي التزمت الصمت تقريبا سوف تطالب بعودة سريعة إلى جدول أعمال الحوار الوطني الذي تضاءل الحديث عنه مع الزخم الذي حظي به مؤتمر المناخ، وتوظيف الحدث الكبير من قبل جماعة الإخوان للتشويش عليه وتسليط الضوء على العاصمة القاهرة بدلا من شرم الشيخ بعد الدعوة إلى تظاهرات في الحادي عشر من نوفمبر الجاري بالتزامن مع مؤتمر المناخ.
نجحت حملات التحريض القوية في جذب الانتباه إليها، وخطفت جانبا من التركيز الذي يحتاجه مؤتمر شرم الشيخ لتأكيد عمق الهدوء والأمن والاستقرار في مصر، والقدرة على تنظيم هذا النوع من الفعاليات الدولية التي يحضرها المئات من رؤساء الدول والزعماء وكبار المسؤولين والشخصيات البارزة في مجالات مختلفة.
انساقت أجهزة في الحكومة مضطرة نحو الاهتمام بما يجري على هامش المؤتمر على حساب جوهره، وبدا تطويق الدعوة إلى تظاهرات مقدما على التعريف بالمناخ، لأن أي حدث طارئ يخرق الخطة الأمنية التي أعدتها القاهرة مهما كان صغيرا قد يجرف معه بعض النتائج الكبيرة التي يمكن أن تتحقق عبر مؤتمر شرم الشيخ.
ولذلك اتخذت أجهزة الأمن ترتيبات صارمة في المدينة النائية الواقعة على البحر الأحمر من دون إهمال القاهرة ومحافظات أخرى تمت الدعوة إلى خروج تظاهرات فيها، ونجح أصحاب الدعوات في جذب الاهتمام إليهم من المواطنين والمسؤولين، واتجهت أنظار وسائل إعلام محلية وأجنبية إلى ما يمكن أن يحدث بعيدا عن شرم الشيخ.
كشفت هذه المسألة عن وجود جهات لها مصالح في تفريغ مؤتمر شرم الشيخ من رسالته المصرية الإيجابية، ومحاولة تحويلها إلى سلبية توجه ضد النظام الحاكم الذي اعتقد أن استضافة قمة المناخ والفعاليات الملحقة بها وحضور العديد من قادة العالم يكفي لمنحها مزايا نوعية في الاصطفاف كعنصر مؤثر في تطورات المنطقة.
يعلم من حشدوا الإعلام وصوبوا آلته نحو الاهتمام بتظاهرات محتملة صعوبة تحقيق أغراضها في إجبار النظام المصري على تقديم تنازلات سياسية لخصومه في الداخل والخارج من ضربة واحدة، غير أن تصوراتهم بدت كأنها تريد حرمانه من قطف ثمار مؤتمر المناخ الذي يجذب دائما العديد من الأنظار إليه، ويعد أشبه بـ”هايد بارك” موسمي تتداخل فيه قضايا المناخ مع الكثير من قضايا السياسة.
اشتغلت آلة المؤامرة في مخيلة البعض من المصريين وظهر مؤتمر المناخ كأنه “فخ سياسي” وضع في طريق الحكومة لتواجه الاستحقاقات الدقيقة التي تصاحبه، وهي معروفة، وطفت في غالبية القمم التي عقدت من قبل، حيث يتحول المؤتمر إلى وسيلة للتراشق بين داعمي البيئة النظيفة ومن تسببوا في تلويثها أو يتهمون بتلويثها، ما يفتح المجال لفتح ملفات يتداخل فيها الاقتصاد مع السياسة بين دول الشمال والجنوب.
ما يجعل تطورات ما بعد مؤتمر المناخ أكثر سخونة وربما خطورة من تلك التي حدثت قبله أو في أثناء انعقاده وجود ما يوصف بـ”التعمد” في تهيئة الأجواء لشغل النظام المصري بملفات فرعية على حساب انخراطه في إيجاد وسائل ناجعة لحل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، وجره إلى مستنقع السياسة والتحديات التي يمكن أن تواجه الأمن عبر تكرار حلقات العنف واستئناف مسلسل الإرهاب.
مهما كانت نتائج مؤتمر المناخ سيكون النظام المصري مطالبا بالتعامل بصورة مختلفة بعده، ويدخل تعديلا على عدد كبير من السياسات الاقتصادية التي تبناها، كذلك الإجراءات السياسية في مجال الحريات العامة بحاجة إلى تغيير، ناهيك عن التخفيف من قبضة أجهزة الأمن حيث ألقي حجر وسط التحركات التي رافقت مؤتمر المناخ.
تعاطت القاهرة بهدوء مع روافد حجر سعى من وقفوا خلفه وحرضوا قوى متباينة على قذفه في المياه المصرية، عن قصد أو من دونه، للربط بين الأزمات الاقتصادية والحالة السياسية المتكلسة، والإيحاء بأن الأولى ناجمة عن الثانية، والعكس صحيح.
يفسر هذا الربط القبول باتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي مؤخرا للحصول على قرض بقيمة ثلاثة مليارات دولار الشهر المقبل، ضمن حزمة إنقاذ اقتصادية مع دول ومؤسسات أخرى تبلغ تسعة مليارات دولار.
على الرغم من القسوة الاجتماعية التي يسببها الاتجاه، إلا أن ضيق الخيارات الاقتصادية دفع الحكومة المصرية إلى القبول وتحمل ما ينتج عن القروض من أعباء وضغوط داخلية، بينها تسريع وتيرة خصخصة عدد من الشركات التابعة للدولة لتعويض ندرة المنح والمساعدات والمعونات والوفاء بالتزامات عاجلة وتقليص الفجوة المالية في العملات الأجنبية التي أفضت إلى مشاكل في استيراد السلع من الخارج.
كما أن الظلال الاقتصادية وما تمخض عن رغبة مصر في إنجاح مؤتمر المناخ والحاجة إلى تفريغ الكبت في الفضاء السياسي، من أهم العوامل التي دفعت الحكومة إلى تدشين الحوار الوطني وتنشيط لجنة العفو الرئاسي للإفراج عن المئات من المعتقلين وتهيئة الأجواء أمام التفاؤل بأن النظام المصري مستعد لإدخال إصلاحات حقيقية.
أوجدت هذه التوجهات أمرا واقعا في مصر يصعب التراجع عنه ولو أوحت بعض تحركات الحكومة بأنها لن تمنح أحدا في المعارضة “شيكات” سياسية على بياض، فالعمل العام يجب أن يتم وفقا لضوابط يحددها الدستور والقانون، ويراعي الخطوط التي تمثل مساسا بالأمن القومي للدولة، لأنه لن يتم السماح بها.
قدمت الحكومة ما يمكن وصفه بـ”تنازلات” عديدة لمنع انفجار مجتمعي تريده جماعة الإخوان، وأقنعت الحكومة أيضا شريحة كبيرة من قوى المعارضة بالتناغم معها من خلال الحوار الوطني، لكن عليها أن تواصل هذا الطريق لأن التراجع عنه وسط تحديات عميقة تصب نتائجه في صالح خصومها.
يشير هذا الطريق إلى أن مرحلة ما بعد مؤتمر شرم الشيخ تختلف عما كان قبلها، فالنظام الحاكم حريص على المكاسب التي تحققت ولا يريد التفريط فيها أو يسمح بجر البلاد إلى تظاهرات تصطحب معها فوضى قد يصعب تطويقها، وهو ما يجعله يتصرف بحكمة للحد من العواصف المقبلة ويواصل الإصلاحات.