د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

ليتني لم أكبر !!َ

كنا في سن الطفولة والبراءة نلعب في فصل الشتاء العابا عديدة منها (الول ، والقاش ، والهجه  ، والنصاع والسباق .) في وادي مربون بالصعيد – العوالق العليا ، وكنا نشعل النار ونتحلق حولها ونكوي أيادينا بأعواد القصب و الذرة (القرط) بعد أن نضعها في النار حتى تحمر ثم نضعها على سواعدنا بلذعة سريعة حتى يبقى أثر اللسعة ظاهرا على الساعد الغض الصغير لنبرع في الرماية كما تقول الأساطير.. ثم نتحلق حول النار ونمد أيدينا لنستمد الدفء والحرارة ....كنا نتسابق لصيد العصافير بوسائل عديدة منها : المنطب والمحنابه  والطوب الهدال الذي نضعه في أعواد صغيرة على عتوم الماء في الحقول !! 
ومن يحضر منا عصفورا يتباهى به أمام الجميع ثم نشويه ونأكله معا رغم حجمه الصغير ..كنا نتقاسم الفرح .. تغني معا ونضحك ونبكي معا...ولم نكن ندري أن الأيام ستحمل لنا الأسى والحزن واستثمر اليمن الخلافات الجنوبية وأخذ يشعل النيران في البلاد بحجة مقاومة الاستعمار الذي أعلن عن موعد رحيله وسالت الدماء الجنوبية على ثراك يا وطني عندما  قام وحوش من أبناء جلدتنا يقتلون الكوادر الوطنية ..ويغتالون البراءة والطفولة...ويدفنون أحلامنا ومن ذلك ما حدث لأحد رفاق الطفولة الذين كنت العب معهم....عندما قتل أبيه الضابط في الأمن في اشتباك مسلح ومعه اثنان من العسكر ...شاهدت جثامينهم مسجاة في وادي يارومه تحت شجرة الأثب الضخمة...وانحبست الدموع في عيوني من هول الصدمة وقفلت راجعا إلى الحي وإذ بالنساء يصرخن بأصوات عالية تشق عنان السماء ويجرين حول البيوت في نوبة بكاء هستيرية .. بعد أن وصل إليهن الخبر وتلبسني حزن عميق و تكورت على جذع شجرة سدر والألم  يعصرني من هول المشهد وإذا بواحد من رفاق طفولتي يقبل علي بعد أن سأل الرجال والنساء ولم يخبره أحد بما حدث واتجه نحوي وتمسك بثيابي يجذبني بكل قوته ويسألني : 
لماذا تبكي النساء ؟ وما الذي جرى ...أجبني؟
ويستحلفني أن أخبره ...ترددت
ازداد تمسكا بثيابي ...وهو يهزني ويقول :  
الست صديقي لماذا لا تخبرني؟؟؟؟
وأنا مشفق عليه من هول الصدمة.. وبعد تردد أخبرته بالحدث الجلل وأبلغته بمقتل أبيه في ذلك الاشتباك بكى وبكيت معه ..سقط على الأرض ...وأخذ يرجف كورقة في مهب الريح ويتمرغ في التراب ويتلوى من الألم أسندته بذراعي النحيلتين حتى وقف وقال لي : خذني إلى هناك أريد أن أرى أبي...وطوال الطريق كنت أواسيه  بالقول : لست وحدك يا صديقي من فقد أباه فانظر حولك وسترى أن الوطن كله أصبح كله ينزف بعد أن نهشته الحروب ، وأدمت جوانبه الفتن  وشردت أبناءه ويتمت أطفاله وضيعت مستقبله وأصبح الوطن كله رهينة بيد الطغاة... حين يولد طاغية ومجرم كل يوم ..هكذا ترسم صورة وطني بلوحة سوداء قاتمة على جوانبها حروف مبعثرة مكتوبة بالدم دون عناوين لا يستدل بها على حال أو مكان ولا يعرف لها قرار أو بداية أو نهاية .
خريطة حمراء قانية ملطخة بدماء أبناء وطن واحد يقتلون بعضهم بعضا منذ ستين  عاما ..تنتشر قبورهم في كل قرية وتبكي شواهدهم عليهم ولا تحمل أسمائهم ولا يستدل عليهم إلا من واروهم الثرى أما الأغلبية فلم يجد  أهاليهم لهم لا قبور ولا شواهد وقد دفنوا في الصحاري والفلوات وسط الرمال أو ذابت جثمانيهم في الآبار المهجورة ولم يعثر عليهم أحد !! 
أكثر من ستين  عاما وشعبنا يواجه الموت والدمار كل يوم في معارك وحروب بالوكالة ..معارك خاسرة ضد بعضنا البعض لا غالب ولا مغلوب فيها والخاسر الوحيد هو الوطن . ..
وعندما كبرنا لم نتعلم رغم كل المآسي والنكبات.. لم نتعظ من كل ما مر علينا ولم نستوعب دروس الحياة وتجارب التاريخ ..كبرنا واختلفنا وزادت مساحة وحدة الخلافات فيما بيننا تشرذمنا وتفرقنا أيدي سبأ فمنا من اعترض بحروف وكلمات باهتة لم يقرأها عابر سبيل مر في سوق الكلمات يبيع ويشري .. ومنا من شارك في تدمير الجنوب وأصبح حاميها حراميها يسرق الأرض ويمارس القتل والإجرام والفساد !!

عندما كبرنا أصبح السارق منا يحمل نجوما على بدلته ونياشين على صدره وسلاحا في يده يأمر وينهى وأصبح الجبان قائدا والثعلب يسابق الأسود والفاسد يحكم بين الناس وبائع السوق خبيرا استراتيجيا والقاتل في حماية القانون والضحية يخاف القانون .. الطبيب أصبح تاجرا والتاجر أصبح سياسيا والغبي أستاذا يعلم الأذكياء والنابهين !! 
الرأس أصبح ذيلا والمنافق عنوانا للشرف المفقود .. والإرهابي أصبح ثائرا والثائر يتدثر بلحاف التقوى والشرف ،أشعلنا الحروب وصدرنا أذانا وشرورنا إلى أخوتنا وجيراننا في الجزيرة والخليج  أشغلناهم بحروبنا وارتهاننا للغير !! 
كبرنا وفقدنا براءتنا وقيم الخير.. ونمت في نفوسنا هواجس الشياطين وأخلاق اللصوص والسماسرة الذين تحميهم المليشيات والبلطجية ..نتفرج عليهم وهم ينحرون عدن ويبيعون أراضيها وتاريخها ويمحون ذاكرتها ويدمرون معالمها وهؤلاء لا ينتمون إلى عدن يزورون الوثائق ويتملكون آلاف الأراضي والبيوت بينما آلاف الأسر العدنية بدون مأوى ولا زالوا يحلمون بقطعة ارض في مدينتهم المستباحة للغرباء والدخلاء والأوباش والنكرات !!
الحقيقة المؤلمة والمفجعة أن لدينا قوائم بالأسماء لمئات اللصوص والمتنفذين من الذين نهبوا كل شيء في عدن دون وجه حق حيث بلغ عدد المرافق والمؤسسات الحكومية المنهوبة أكثر من 400 مرفق ومؤسسة ناهيك عن حضرموت والمحافظات الأخرى. 
مليشيات مسلحة تسيطر على عدد من المربعات الأمنية وتستولي على أراضي شاسعة ومنها ممتلكات للدولة وبعضها للمواطنين غاب أهلها بسبب الحرب !!ّ 
المنصورة والشيخ عثمان ومنطقة صهاريج عدن تشهد بناء عشوائيا ومنافسات طاحنة على نهب الأراضي وتحويلها إلى أسواق تجارية !! 
لازالت تحكمنا القبلية العمياء ونتخندق ونحتمي بالمناطقية البغيضة ولا زلنا نتجرع الفشل ونبيع الأوهام ونسوق الأحلام لأنفسنا ونلقي آثامنا وأوزارنا على الغير ونحن أول من باع وخان واستباح الوطن ..وساعد على ضياعه .
وختاما لازلت آمل أن يعود أبناء الجنوب إلى رشدهم وان يتركوا مهنة النخاسة وبيع أنفسهم مع  تراب الوطن والكف عن المتاجرة وبيع أوصاله  بأثمان زهيدة .. احلم بان ينهض كل حر شريف ويقف سدا منيعا في وجه اللصوص والسماسرة ونقول لهم : 
كفوا عن المتاجرة بأحلام البسطاء وكفوا أيديكم عن بيع الأوطان وأخشى أن نصحو بعد فوات الأوان وقد ضاع الوطن من أيدينا كما ضاع من قبل وحينها لا ينفع الندم وإذا كان لي الخيار أو أمنية أخيرة في حياتي أتمنى أن أعود طفلا صغيرا وأعود ألعب مع رفاقي الذين فقدتهم لنستعيد براءتنا وطفولتنا ونتخلى عن أطماعنا ونعود إلى فطرتنا بعد أن كبرنا وتحولنا إلى كائنات بشرية همجية باعت نقائها وطهارتها في سوق النخاسة والجريمة وتخلت عن إنسانيتها وأعود أصرخ في الوادي مع رفاقي بصوت واحد:
ليتنا لم نكبر !!!
د. علوي عمر بن فريد