محمد أبوالفضل يكتب:

مصر وقطر بعد المونديال

يبدو العنوان غريبا لأنه يربط علاقة مصر وقطر بحدث رياضي، وهو المونديال، لكن التدقيق في بعض التطورات الاقتصادية والسياسية والإعلامية يسهم في فك لغز العنوان، ويمكن اكتشاف أن هناك علاقة وثيقة بينهما، فقد اشترت الدوحة هدوءا ممن ناكفوها وناكفتهم خلال السنوات الماضية لتمرر استضافتها لكأس العالم بسلام.

غير أن الضربات جاءتها من جهات غربية وليست عربية، وهو ما لم يكن في الحسبان، فهناك ملفات حقوقية ومجتمعية مرتبطة بتنظيم البطولة جرى فتحها على نطاق كبير تشكك في بعض التصورات والتصرفات الخاصة بالمونديال، وأثارت زوبعة في بعض وسائل الإعلام الدولية قبل أيام قليلة من حفل الافتتاح، أدت إلى انزعاج بعض المسؤولين في قطر وإشارتهم إلى مؤامرة كونية على بلدهم.

كان المونديال من ضمن أسباب عدة رئيسية حثت قطر على السعي نحو التهدئة مع مصر والتقدم خطوة للتقارب السياسي معها خوفا من أن يؤدي استمرار المقاطعة إلى تشويش على استعداداتها لمناسبة أنفقت عليها مبالغ طائلة، معتقدة أنها سوف تنقلها إلى مصاف الدول الكبرى في المنطقة، فهي مناسبة رياضية لا تخلو من المعاني السياسية.

راهنت القاهرة على أن التقارب مع الدوحة سيجلب معه فرصا استثمارية وودائع مالية، تمكنها من توسيع مروحتها الاقتصادية، وهو ما استجابت له قطر في حدود أقل من توقعات رفعت سقف طموح مصر إلى مساعدتها على تجاوز الأزمة الاقتصادية.

تحول الهدوء إلى ما يشبه صفقة متبادلة غير مكتملة الأركان، حيث تركت مجموعة من الملفات التي يمكن أن يتم فتحها عقب الانتهاء من ضجيج المونديال، حققت توازنا في الحد الأدنى للأهداف ومن منطلق المكسب والخسارة في حسابات كل طرف.

كبحت قطر الجزيرة والقنوات والمواقع التابعة لها التي اعتادت شن هجمات قاسية على القاهرة الفترة الماضية، وبادلت الأخيرة الهدوء بأكثر منه، وبدا اسم قطر بشكل شبه رسمي غير مقترن بالشر أو الخير في غالبية وسائل الإعلام المصرية.

تعاملت الدوحة مع الأحداث الساخنة التي جرت في بر مصر، بدءا من مؤتمر المناخ وحتى دعوات الإخوان للتظاهر في الحادي عشر من نوفمبر مرورا بالأزمة الاقتصادية الحادة، بقدر كبير من التجاهل، ولم تتلقف الأخطاء ولم تقم بتضخيمها كالمعتاد أو تطلق حملة دعم للنظام المصري الذي يواجه تحديات مصيرية.

تعني هذه المعطيات أن هناك جولة يمكن أن تنطلق بعد انتهاء فعاليات كأس العالم ربما يتواصل خلالها الهدوء أو ينقلب إلى عداء، وفقا لجملة محددات سوف تتحكم في تحديد ملامح المرحلة المقبلة، من بينها موقف الإخوان في المشهد السياسي المصري.

إذا كانت الدوحة وجدت في تسكين العلاقة مع خصومها ضرورة حتمية، فحاجة القاهرة إلى ذلك لا تقل أهمية، لأن الأبعاد الاقتصادية جزء مهم في تصحيح مسار العلاقات، علاوة على أن هناك رغبة مصرية في تصفير المشكلات الإقليمية مع كل من قطر وتركيا، شريطة النأي عن تقديم تنازلات في ملف الإخوان.

يظل هذا الملف من العناصر الأساسية التي سوف تلعب دورا مهما في تحديد الوجهة التي يمكن أن تستقر عليها علاقات القاهرة مع الدوحة، فكما كان جزءا في توترها سيكون أيضا عنصرا مركزيا في تحسنها واستقرارها سياسيا.

ترتب على تصاعد الخلاف سابقا أن تلقت جماعة الإخوان دعما كبيرا من قطر، وتحول الصخب الإعلامي إلى منغص سياسي لمصر، وساعد التحسن الظاهر في العلاقات بين الجانبين على فرملته مؤخرا، وفقدت جماعة الإخوان (مؤقتا) حليفا مهما منحها مكاسب عديدة خلال السنوات الماضية في معركتها ضد النظام المصري.

حاول الإعلام القطري أن يظهر وجها إيجابيا للقاهرة بالتعامل السلبي مع الإخوان، فالدوحة التي لم تتجاوب مع غالبية مطالب مصر بشأن ردع قيادات الجماعة اكتفت بوضع ملفها على الرف، بما يعني أنه يمكنها إنزاله عندما تشعر بحاجتها إلى ذلك لاحقا، فتجميده يقول إن اشكالياته لم تحل بعد، ويشير إلى إمكانية توظيفه مرة أخرى.

لم تحصل القاهرة على كل ما أرادته من الدوحة اقتصاديا وسياسيا، وإعلاميا لا تزال هناك أذرع تابعة لقطر تمارس نشاطا محدودا ضد النظام المصري، فقناة “العربي الجديد” والصحيفة التي تحمل الاسم نفسه تقومان بمناوشات من حين إلى آخر.

وتؤدي المواقع التابعة لقطر في الخارج الدور نفسه، وهو ما يفسر عدم قيام الحكومة المصرية بمنح التراخيص اللازمة لإعادة فتح مكتب الجزيرة في القاهرة، وأن الطرفين لم يتمكنا من التوصل إلى تفاهمات نهائية تنقل الهدوء المؤقت إلى دائم.

تكشف المكونات الإعلامية التي تأتي بصورة غير مباشرة في الخطاب القطري جانبا من الغموض السياسي الذي يكتنف العلاقة مع النظام المصري، بما يعزز حظوظ الكلام عن الشكل الذي يمكن أن تصبح عليه ما بعد المونديال، وتتحكم فيه طبيعة توجهات قطر ودورها في بعض القضايا الإقليمية التي تلتقي أو تتنافر فيها مع مصر.

يؤكد القبول بصيغة الهدوء المؤقت أن كل طرف يحمل في جعبته أهدافا آنية ويريد تحقيقها بأي ثمن، فالعودة إلى التوتر في الوقت الراهن تتنافى مع رغبة قطر في عبور المونديال بلا عواصف سياسية عربية تؤثر على صورتها التي تريد أن تصاحبها بعد كأس العالم، كأول دولة عربية تستضيف أكبر حدث رياضي في العالم، وتسعى لأن تجني من وراء ذلك دعاية سياسية قد تمنحها وزنا إقليميا جيدا.

كما يتنافى الحفاظ على التوتر مع سعي مصر نحو الحصول على جزء كبير من كعكة الاستثمارات القطرية التي تبدو مترددة في زيادة العطاء، وحضها على وضع ملف الإخوان في الثلاجة لأطول فترة ممكنة إن لم يتم التوصل إلى صيغة تسوية مناسبة.

تشير حسابات كل طرف بهذه الطريقة إلى جولة جديدة من المفاوضات أو المناكفات، لأن الصورة المرسومة حاليا لشكل العلاقات تفتقر إلى التفاؤل بشأن ردم الهوة تماما، فلا تزال القاهرة قلقة من نوايا الدوحة وتتشكك في مواصلة الهدوء بعد المونديال، والأوراق الإقليمية التي تسببت في إزعاج مصر وتقبض عليها قطر لم تتم إزالتها.

تكمن المشكلة الرئيسية بين البلدين في اهتزاز الثقة والسيولة والمراوحة والأجندات الخفية التي تحملها قطر، وكلها مفردات تصلح لتوصيف نظرة القاهرة إلى الدوحة وتجعل من التطبيع الكامل معها فعلا بعيد المنال، وما لم تحدث تصفية واضحة ومحددة وتغليب مبدأ البناء على القواسم المشتركة في القضايا الخلافية سوف يعود التوتر بينهما في أي لحظة إلى الانفجار.