محمد أبوالفضل يكتب:

قطر المتناغمة شكلا مع مصر.. متى تتناغم موضوعا

القاهرة

مصر تريد استثمارات قطرية، لكن الخلاف مصدره أن قطر تريد استحواذا أكبر على المؤسسات المصرية، وهذا مثار خلاف بينهما، خاصة أن القاهرة تجد ضغوطا داخلية بشأن رهن كبرى شركاتها للخارج، وهو ملف شائك. فكل بلد يريد من الآخر أن يقدم دون حساب، وهذا أمر صعب.

استخدم رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي خلال زيارته إلى قطر قبل أيام عبارة جذابة لافتة وفضفافة لا تعبر عن المضمون الحقيقي للعلاقات مع الدوحة، حيث أكد في حوار أجراه مع وكالة الأنباء القطرية أن العلاقات بين البلدين “تشهد مزيدا من التعاون والتناغم على كافة الأصعدة”، ما يوحي بتجاوز الخلافات السابقة والتأسيس لمرحلة متقدمة في التوافق العام، وقد يكون الاقتصاد الذي تحتاج القاهرة إلى دعمه سريعا هو القاطرة التي تجر خلفها العربات – المجالات الأخرى.

كانت زيارة مدبولي للدوحة اقتصادية بامتياز، ففي كل الاجتماعات التي عقدها مع كبار المسؤولين احتل ملف الاستثمار حيزا كبيرا فيها، وأشار الرجل إلى الكثير من الامتيازات والحوافز والإغراءات لزيادة الاستثمار القطري في مصر.

لكن النتيجة النهائية لم تأت على مستوى الرهانات الكبيرة للقاهرة، وبدا أن الدوحة تريد ضخ استثمارات وفقا لشروط معينة، تتضمن استحواذات أكبر في بعض المؤسسات المصرية وعدم التقيد بما طرحته الحكومة من شركات للخصخصة.

ويقلل التباين في التقديرات الاقتصادية واستغراق المزيد من التباحث في جولات مقبلة من القيمة التي تنطوي عليها عبارة التعاون والتناغم في حوار مدبولي مع وكالة الأنباء الرسمية في قطر، فربما يكون التفاؤل الذي حملته حافزا وداعما للوصول إليه قريبا، أو أن التفاهم بين البلدين ليس ببعيد أو هو مستحيل والمضمون الذي يحمله يمكن تحقيقه.

تراهن القاهرة كثيرا على الاستثمارات الخليجية، وتسعى نحو توسيع مروحتها الاقتصادية كي لا تبدو محصورة فقط في السعودية والإمارات، وتعد قطر نافذة مهمة لأن لها طموحات في مصر تعمل على تحقيقها، فلم تفارق عيناها القاهرة منذ تراجع حضورها عقب سقوط نظام جماعة الإخوان قبل نحو عقد من الزمان.

وتعتقد الدوحة أنه ما لم يتحقق من قبل بدعم الحركات الإسلامية عموما يمكن تحقيقه عن طريق الاقتصاد، وتعمل على تعظيم هذه الورقة، مستفيدة من الأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها مصر، وتجد فيها فرصة لوضع شروطها وفرض خياراتها.

ويؤكد هذا الاستنتاج أن التعاون بين مصر وقطر مختزل في النطاق الشكلي وقابع في حيز الأمنيات والأهداف المسكونة بالهواجس، ولا يزال بعيدا عن فكرة التناغم التي تعني أن التفاهمات بلغت مستوى رفيعا بين البلدين، وهو ما لا تشير إليه التطورات السياسية والأمنية والاقتصادية بصورة قاطعة.

وكما تبدو خطوات الدوحة بطيئة في المجال الاقتصادي وتريد أن تكون عجلة الاستثمار تسير وفقا لرؤيتها المتأنية، تمضي القاهرة على المنوال نفسه في مجالات أخرى مهمة لم يتم تحقيق تقدم كبير فيها، وكل ما جرى عملية تجميد وتسكين للمنغصات الناجمة عنها، ما جعل العلاقات محشورة كثيرا في حيز المجاملات، من نوعية الحديث عن تناغم صاعد لا توجد أدلة كافية لتأكيده.

ويكفي استمرار حجب غالبية المواقع الإلكترونية القطرية والممولة منها، واستمرار غلق مكتب شبكة الجزيرة بالقاهرة لفهم أن ما يعتمل تحت السطح أكبر مما فوقه.

وعادت العلاقات الدبلوماسية رسميا بين البلدين وتم تبادل السفراء وحدثت زيارات لكبار المسؤولين، واختفت قطر الشريرة وتحولت إلى قطر الشقيقة في الإعلام المصري، كما اختفت عبارة “الانقلاب العسكري” في الإعلام القطري ولم يعد يشير من بعيد أو قريب إلى “الشرعية” الإخوانية، منذ المصالحة التي تمت في قمة العلا الخليجية بالسعودية في يناير 2021.

جرت تطورات متسارعة بين مصر وقطر، فحواها السعي لطي الصفحة القاتمة الماضية دون مناقشة للعوامل التي أدت إليها، أو تفسير لعدم التقيد بالاستجابة للشروط الخليجية التي وضعت لعودة العلاقات مع الدوحة.

ربما تكون قطر راعت هذه الشروط بصورة ضمنية، وقبلت دول المقاطعة عمليا بالصيغة المقدمة لها، إلا أن أسباب الخلاف يمكن أن تطل برأسها في أيّ لحظة، فالدوحة حرصت على أن تبدو منتصرة بعدم استجابتها صراحة للشروط العربية.

وتسكين أسباب الخلاف بين قطر ومصر يعني أحد أمرين، الأول عدم الوصول إلى تفاهمات نهائية في الملفات التي أفضت إليه وصعوبة تقريب المسافات وأن هناك إمكانية لجولة جديدة من الخلاف، والثاني وجود صفقة تتم تسويتها ترهن ما هو اقتصادي بما هو سياسي، بمعنى تقدم الدوحة دعما اقتصاديا سخيا للقاهرة مقابل أن تستجيب الأخيرة لرغبتها في تصفية ملف الإخوان عبر مصالحة سياسية متوازنة.

ويفسر الأمران أو المحددان السابقان جانبا لفهم عبارة التعاون والتناغم في خطاب رئيس الحكومة المصرية، والحذر والتنافر الظاهر في الحصيلة التي يستشفها المراقبون من الخطاب السياسي العام في البلدين، ما يؤكد أن العلاقة بينهما تدور في فلك الشكل أكثر من الموضوع.

ويحتاج تخطي هذه الازدواجية الكثير من الخطوات، أبرزها أن يعلن كل جانب موقفه من جماعة الإخوان، ماذا تريد الدوحة بشأن هذا الملف، وما هي الحدود التي يمكن أن تستجيب فيها مصر لأيّ مطالب قطرية، وهل تجميد هذا الملف يمثل خيارا مجديا، خاصة أن الدوحة لم تتخل عنه والقاهرة غير مستعدة لتقديم تنازلات فيه؟

تدور ملامح لعبة غير مباشرة، كل طرف يحاول توظيف ما يملكه من أوراق (قطر الاقتصاد والإخوان، ومصر عدم التنازل فيهما). وهي لعبة لن تنتهي بسهولة، لأن هناك أوراقا أخرى وتداعيات يمكن أن تحدث بسبب تفاوت نسبي في الرؤى حول بعض القضايا الإقليمية، وكلها يغلب عليها الغموض، الذي يرى فيه الجانبان وسيلة بناءة طالما أنهما لا يستطيعان تحقيق اختراقات كبيرة.

وقد يعرقل هذا التفاوت الرهانات الاقتصادية لمصر على قطر ويحد من فرصها في جذب المزيد من الاستثمارات بالأدوات المريحة، لأن الدوحة تقبض على زمام الأمور في البعد الاقتصادي ولا تريد التفريط فيه ما لم تتمكن من تحقيق أهدافها كاملة، حيث الاستثمار في مصر أداة سياسية من الضروري الاستفادة منها إلى أقصى مدى.

الدوحة تعتقد أن ما لم يتحقق من قبل بدعم الحركات الإسلامية عموما يمكن تحقيقه عن طريق الاقتصاد

ويأتي التناغم فعليا عندما يحصل كل طرف على ما يريده، غير أن المشكلة الحقيقية لهذه النتيجة تكمن في روافدها، فالوصول إلى صفقة تستجيب لطموحات كليهما، اقتصادية أو سياسية، سوف تجلب معها تداعيات قاتمة، فنمو الاستحواذات القطرية وما ينجم عنها من مكاسب سياسية في مصر لن يكون مريحا لدول مثل السعودية والإمارات تنافس اقتصاديا ويمكن أن تتأثر علاقاتهما بالقاهرة.

الأكثر خطورة أن قطر لم تتخل عن أهدافها السياسية دفعة واحدة، ولم تعلن براءتها من الإخوان والحركات الإسلامية، وإذا أصرّت على العودة إلى تفعيل هذه الورقة سوف تتسبب في ارتباك بالداخل المصري، الذي ارتاح لغياب التيار الإسلامي عن المشاركة السياسية، وإن كانت القوى المدنية لم ترتح لعملية إقصائها تماما.

في كل الأحوال، العلاقة بين مصر وقطر في تناغمها وتنافرها وتذبذبها شائكة، وإذا لم تطرق التفاهمات بينهما أبواب القضايا الشائكة والمعلقة بصراحة ووضوح وقوة كافية سيظل شبح التوتر مخيما عليها، وإن تحدث رئيس الحكومة المصرية عن تعاون وتناغم صاعدين، أو وعد كبار المسؤولين في قطر بدعم اقتصادي كبير لمصر.