د. محمود عبد العال فراج يكتب:
اليقين الاقتصادي.. دول الخليج العربي نموذجًا
اتجهت الاستثمارات الإقليمية والعالمية في الفترات السابقة إلى منطقة الخليج العربي، وتحديدًا في دولة الإمارات العربية والمملكة العربية السعودية ودولة قطر، بالإضافة إلى مملكة البحرين وسلطنة عمان في الآونة الأخيرة،لإدارة استثماراتها وعملياتها التشغيلية من هذه الدول، مما يعد بمثابة مؤشر لثقة هذه الشركات العالمية في الاستقرار الاقتصادي لهذه الدول، بالرغم من الظروف المناخية التي تحيط بها.
السؤال الذي يفرض نفسه لماذا؟إن الإجابة المفتاحية لهذا السؤال الاستراتيجي كان في طيات وثنايا المقدمة،ألا وهو الاستقرار الاقتصادي لهذه الدول،أو بمعني صحيح إنها حالة اليقين الاقتصادي التي تشير إلى ثقة الأفراد والشركات في اقتصاديات تلك الدول ومستقبلها، ما يؤثر على مجموعة من القرارات أهمها قرار الاستثمار والإنفاق،وتتأثر دلالاته بعوامل مثل السياسة الاقتصادية، والتطورات العالمية، والاستقرار الاجتماعي.
إن ما تعيشه هذه الدول من استقرار وثبات اقتصادي نادرًا ما يتكرر على الصعيد العالمي الاقتصادي، ما يعد حالة تحتاج العناية والدراسة والتحليل، وفي هذا المقال نتوقف قليلا لرصد ظاهرة الثبات، والتأكد، واليقين الاقتصادي، باعتبارها من أهم الظواهر الاقتصادية، فالاستقرار السياسي والاقتصادي ووجود حكومات قوية لديها القدرة على التعامل مع أي مستجدات مهما كانت درجة تلك التحديات، ساهم بشكل قوي في بناء الثقة العالمية في اقتصاد هذه المنطقة الجغرافية من العالم، ولعل ما يؤيد هذه النظرة هو ما مر بدولة الإمارات من منخفضات جوية في الآونة الأخيرة، والتي سببت بعض الإرباك في الطرق ومطار دبي الدولي، وهو ما يعدأمرًا طبيعيًّا، يحدث في كل دول العالم، بسبب هذه الظواهر الطبيعية،إلا أننا شهدنا هجمة شرسة على إمارة دبي تحديدًا، ليعلن بعدها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، عن بناء أكبر مطار في العالم، وبميزانية تفوق المائة مليار دولارأمريكي، ليكون مطار آل مكتوم الدولي، وبعد الانتهاء من عمليات التشييد والتحديث والتطوير لأكبر مطارات العالم،ستتبدد جميع المخاوف، وسيعزز من المكانة الاقتصادية ويزيد من ثبات السياسة الاقتصادية لدولة الإمارات وخصوصًا إمارة دبي، مما يدل على متانة الاقتصاد الإماراتي.
وهذا مما يعزز من مكانة دولة الإمارات الاقتصادية، ويساهم في بناء اليقين الاقتصادي تجاهها، وهذا بلا شك يؤثر على تقدير الأفراد والشركات والمؤسسات العالمية، لقدرة اقتصاد أي دولة لها الرؤى نفسها، والثبات الاقتصادي،مما يزيد من ثقة العالم الخارجي على قدرة الدولة المعنية وسوقها على النمو والازدهار، ما يؤثر بالإيجاب على قرارات الاستثمار والإنفاق.
هذا يعدمن أهم العوامل التي تؤثر في تحقيق اليقين الاقتصادي لدولة ما،أضف إلى ذلك أن الاستقرار السياسي والاجتماعي يلعبان دورًا مهمًّا في تحقيق ذلك، كما أن وجود البنية القانونية والتشريعية ووجود نظام قضائي فعال يتسم بالعدالة، ووجود نظام حوكمة ومساءلة شفافة ونزيهة، كفيلان بتحقيق الثقة الاقتصادية ويقللان من المخاطر الاقتصادية.
على العكس من ذلك تمامًا فإن عدم الاستقرار السياسي والنزاعات السياسية أو الطائفية والعرقية، وكذلك الحال بالنسبة للاضطرابات الاجتماعية، قد يؤثر -وبشكل مباشر- على تكوين حالة من عدم اليقين الاقتصادي لأي دولة كانت، وهنا لابد أن نأخذ على سبيل المثال لا الحصر القارة الإفريقية وصراعاتها السياسية والعسكرية، وعدم استقرار نظام الحكم فيها،أدىإلى أن العالم بات ينظر بشكل سلبي لدول القارة،ويُحجم عن الاستثمار فيها، بالرغم من تحسن الصورة في الآونة الأخيرة وحدوث نوع من الهدوء والاستقرار السياسي والاقتصادي، ما أدى إلى فتح الباب للاستثمارات الصينية والهندية والتركية، بالإضافة إلى استثمار العديد من الدول العربية في القارة الإفريقية، وإن كان حجم ذلك الاستثمار ليس بالحجم المأمول، مقارنة بما تمتلكه إفريقيا من مقدرات وثروات طبيعية هائلة وفرص استثمارية كبرى، بالإضافة إلى ذلك فإن عدم استقرار السياسة النقدية والمالية أو عدم استقرار السياسة الضريبية،أو عدم الاستقرار على سياسات اقتصادية ثابتة، كفيل بأن يؤدي إلى تشكيل حالة من عدم اليقين الاقتصادي حول دولة ما.
كما أن التغيرات المفاجئة في الأسعار والأسواق قد يؤثر سلبًا على الثقة الاقتصادية ويؤدي إلى تراجع الاستثمار والإنفاق، وكذلك الحال بالنسبة للأحداث المفاجئة أو النزاعات العسكرية التي تتسم بصفة صراع دولي كفيل بتدمير حالة اليقين الاقتصادي، سواء على المستوى المحلي أو المستوى العالمي.
ويمكننا الاستدلال على تشكل حالة عدم اليقين الاقتصادي العالمي بما شهده العالم خلال جائحة كورونا، وما سببته هذه الجائحة من تداعيات اقتصادية ما زالت تؤثر في الكثير من دول العالم، وبدأت آثار التعافي منها في دول أخرى،فتمخض عنها وعن التدابير المتخذة للتعامل معها حالة من عدم اليقين الاقتصادي، ألقت بظلالها على المجالات كافة في شتى بقاع العالم.
وأدت إلى تعطيل سلاسل التوريد، وتسببت في خسائر واسعة النطاق في الوظائف، و انكماش حاد في النشاط الاقتصادي، ثم أعقبت تلك الجائحة الحرب الروسية الأوكرانية التي أثرت وبشكل مباشر في العديد من النواحي الاقتصادية، أهمها انقطاع سلاسل التوريد، وبصفة خاصة الحبوب التي تعد الدولتان من كبار المنتجين العالميين للقمح والذرة، ما أثر بشكل مباشر في سلاسل توريد الغذاء العالمية، بالإضافة إلى الكثير من العوامل التي ساعدت أحد الطرفين ووجهت جزءًا مقدرًا من ميزانيتها العامة، لصالح دعم الإنفاق العسكري للطرفين.
أضف إلى ذلك ما أسفرت عنه هذه الحرب في تشكيل حالة من الخوف والذعر الاقتصادي، ما ساهم -وبشكل مباشر- في وجود حالة من عدم التأكد حول التوقعات والتنبؤات الاقتصادية التي أضحت مجال شك وبشكل كبير نظير هذه الحرب، ولعلنا ما زلنا نستذكر ما خلفته الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في الفترة ما بين 2007-2008، ما سبب انهيار السوق العقاري في الولايات المتحدة، وامتد أثرها إلى دول أخرى، وأدى ذلك إلى ركود عالمي.
وتسببت الأزمة في حالة من عدم اليقين على نطاق واسع في الأسواق المالية، وأدت إلى انكماش حاد في النشاط الاقتصادي، وهو ما قد يتكرر مرة أخرى بسبب الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا، ولعل ما يعزز تلك النظرة غير المتفائلة ما يشهده العالم منذ فترة ليست بالقريبة من صراع تجاري عالمي بين القطبين الكبيرين أمريكا والصين(صراع النفوذ) الذي تسبب في زيادة التعرفة الجمركية، وهدد بفرض مزيد من القيود الاقتصادية الكفيلة بخلق حالة من عدم اليقين الاقتصادي العالمي، وخاصة أن لهذا الصراع الاقتصادي وجوها متعددة في مختلف مناطق العالم، فكل طرف يبذل قصارى جهده في بسط نفوذه السياسي والاقتصادي والعسكري في مختلف بقاع العالم، وبخاصة المناطق ذات الثروات الاقتصادية أو ذات المواقع الاستراتيجية.
كذلك تسبب قرار المملكة المتحدة بمغادرة الاتحاد الأوروبي في ديسمبر 2020 في حالة من عدم اليقين الاقتصادي، لا سيّما بالنسبة إلى الشركات البريطانية التي كان لديها شراكة مع الاتحاد الأوروبي،وكانت هناك مخاوف بشأن التأثير على التجارة والاستثمار، فضلًا عن إمكانية التشدد في اللوائح التنظيمية والتعريفات الجمركية.
إن منطقة الشرق الأوسط ما زالت، وباعتبارها مصدرًا مهمًّا للعديد من الثروات الطبيعية كالبترول والغاز والمعادن، فضلا عن أهمية موقعها الجغرافي، ووجود العديد من الممرات المائية التي تعتبر نقاطا تجارية مهمة،ما زالت تعاني من العديد من الصراعات الإقليمية، وبخاصة الصراع العربي الإسرائيلي، الذي امتد لعقود عديدة، وهو ما يساهم في تشكيل وخلق حالة عدم يقين اقتصادي إقليميا وعالميا، ذلك أن المنطقة تزود العالم بأكثر من نصف احتياجاته من مصادر الطاقة، وبالتالي فإن حالة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي (باستثناء منطقة الخليج العربي)، في تلك المنطقة قادر على المساهمة في خلق حالة من عدم اليقين الاقتصادي.
لعل الكثير من المحللين الاقتصاديين يشهدون تعرض محركات النمو الرئيسية للاقتصاد العالمي لمجموعة من الضغوط القوية،أدت إلى وجود القارة الأوروبية على حافة الركود،بالإضافة إلى تباطؤ معدلات نمو الاقتصادالصيني،وبقاء الاقتصاد الأميركي باعتباره اللاعب الرئيسي للنمو العالمي، ولقد أصبح هذا واضحًا بشكل خاص في الربع الثالث من عام 2023 حيث كانت تقديرات النمو في الولايات المتحدة مثيرة للإعجاب مجددًا.
لكن حتى توقعات النمو في أمريكا غير مؤكدة، فعلى مدار الأشهر الخمسة عشر الماضية، كان إجماع المحللين حول اتجاه الاقتصاد الأميركي يتأرجح بشكل كبير بين أربعة سيناريوهات: الهبوط الناعم والهبوط الحاد والهبوط الاصطدامي وعدم الهبوط، وعلى الرغم من أن وجهة النظر السائدة الآن هي أن الولايات المتحدة تتجه نحو هبوط ناعم، فإن التوقعات قد تتحول إلى هبوط حاد خلال الفترة المقبلة، وهو ما يزيد من حالة الشك في أداء الاقتصاد العالمي من جديد، ويجعله عرضة لتقلبات حادة، قد تنتهي بأزمة اقتصادية اشد قوةً من أزمة العام 2008، فعندما يصبح من السهل جدًا أن يتغير الحديث عن النمو في أكبر اقتصاديات العالم بمؤسساتهاالعملاقة وتنوع أنشطتها الإنتاجية ما بين حالة ركود (أوروبا) أو تباطؤ كالصين،أو حالة من عدم التأكد كالولايات المتحدة الأمريكية، فليس من المستغرب أن تصبح حالة عدم اليقين في بقية العالم أكثر وضوحًا، وإن كنت أرى حالة أخرى تتشكل في دول الخليج العربي، التي أصبحت اقتصاداتهاأكثر تنوعًا، ونجحت في ذلك بامتياز كبير، فبدلا من اعتماد اقتصاداتها على موارد الطاقة كالنفط والبترول، فإنها اعتمدت استراتيجيات جديدة خلقت من خلالها مصادر متنوعة ومتعددة لدخلها القومي، فإنأخذنا المملكة العربية السعودية كمثال أكثر انفتاحا على السياحة الترفيهية وصناعة الترفيه والعديد من المجالات الأخرى، التي أصبحت تشكل نسبة مقدرة من الدخل القومي للمملكة، ما يعد نوعا من النجاح الاقتصادي الاستراتيجي.
ولعل نموذج إمارة دبي بدولة الإمارات العربية يعد نموذجًا يدرس في المدارس والمناهج الاقتصادية المختلفة في تعدد مصادر دخلها، ما كون حالة من حالات التأكد واليقين الاقتصادي حول الأداء المالي والاقتصادي لدولة الإمارات العربية، وكذا الحال لبقية دول المنطقة، إلا أن ذلك لا يمنع من كون أن التوقعات العالمية أشبه بالتوزيع الطبيعي للنتائج المحتملة، أي على شكل جرس إنذار يقرع في الولايات المتحدة الأمريكية، ويُسمع رنينه في مختلف بقاع العالم، وكذلك الحال إن وقعت أحداث سياسية مفاجئة في قارة آسيا، فلابد وبالتأكيد أن تتأثر بقية دول العالم الأخرى بهذه الأحداث.
على الجانب الآخر من الصورة فإن هناك أحداثًا اقتصادية تتفاعل، وتتسبب بتحقيق حالة اليقين من عدمه، على سبيل المثال السياسة النقدية لدول العالم، قد تكون هي أحد مسببات أو نتائج حالة الثبات واليقين الاقتصادي، فرفع معدلات الفائدة على سبيل المثال لا الحصر، قد يزيد من مخاطر الركود والاضطراب في الأسواق المالية، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج نتيجة لسياسة رفع الفائدة، ومن سبب تباطؤ معدلات الإنتاج، بما يساهم ويساعد في تشكيل حالة من عدم اليقين عن معدلات الاقتصاد المحلية والعالمية، حيث تواجه السياسة النقدية في الكثير من بقاع العالم دعوة الكثير من المحللين والمراقبين الاقتصاديين إلى ضرورة إعادة النظر في أدواتها التقليدية، كسعر الفائدة مثلا ، فرفعها يؤدي إلى الانكماش والركود، وخفض معدلاتها يسبب معدلات تضخم مرتفعة، فأصبحت السياسة النقدية تواجه تهديدًا لمصداقيتها، وشكوكًا هيكلية حقيقية بشأن مستوى توازن أسعار الفائدة، مع التأثيرات المتأخرة المترتبة على دورة رفع أسعار الفائدة المكثفة بشكل ملحوظ.
وعلاوة على ذلك، فإن تقلص الموازنات العمومية للبنوك المركزية وغياب إطار فعّال يتعلق بالسياسات يؤدي إلى تفاقم التحدي المتمثل في تحديد أهداف التضخم الصحيحة ضمن اقتصاد عالمي يتسم بوجود عرض لا يتمتع بالقدر الكافي من المرونة،وكذا الحال للدعوات العالمية المتكررة للاعتماد بشكل كبير على تقنيات الذكاء الاصطناعي، وما يصاحب تلك الدعوة من التفكير فيما قد يكون وضع معدلات البطالة العالمية نتيجة الاعتماد على هذه التقنيات والاستغناء عن الكثير من الوظائف على المستوى العالمي، وهذا بالضرورة قد يساهم وبشكل كبير في التمعن في مؤشرات الأداء الاقتصادي في ظل ما قد تشهده القطاعات الاقتصادية المختلفة من ارتفاع معدلات البطالة فيها.
ختامًا نحتاج إلى دراسة الحالات الإيجابية للعديد من الدول التي ذكرنا منها على سبيل المثال، ومدى نجاحها في تحقيق حالة من حالات الأداء المقنع والثابت لاقتصاداتها، على مدى عصور زمنية، استنادًا إلى مصادرها ومواردها الطبيعية في المراحل الأولى من تأسيسها، والتي اغتنمتها في تنويع مصادر دخلها من خلال خلق العديد من المحفزات المالية لقطاعات الأعمال المختلفة، وتقديم العديد من الحوافز لها، والعمل على وجود العديد من المؤسسات الداعمة للابتكار والإبداع في قطاعات متعددة، وتشجيع الأفكار التي تدعو إلى تنويع مصادر الدخل القومي، والتي ساهمت بشكل رئيس في الحفاظ على معدلات النمو الاقتصادي عندما هبطت أسعار النفط أو الغاز.
إن مثل هذه السياسة المرنة التي تنتهجها دول المنطقة قادر على تقليل المخاطر الاقتصادي، ويقدم للاستثمار العالمي صورة مشرقة عن أداء هذه الدول من النواحي الاقتصادية، ما يدعم صورتها أمام أنظار العالم، ويجعلها قبلة للعديد من مقار شركات المال والأعمال والتكنولوجيا العالمية، التي أصبحت تنظر إلى هذه الدول باعتبارها واحة لليقين الاقتصادي.