محمد أبوالفضل يكتب:
نتنياهو يلجأ للهجوم السياسي: استراتيجية الدفاع عن المخططات الحكومية
يملك رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مخططات محددة يريد تنفيذها في قطاع غزة والضفة الغربية، ليعزز من مكانته السياسية في دولته، وجاءت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي لتمكنه من تدشين رؤاه التي حلم بها طويلا ولم تسعفه التطورات الإقليمية لتحقيقها، ولذلك لا يسمح بقوى داخلية أو خارجية لتعطيل مساره، واتخذ من الهجوم السياسي على خصومه وحلفائه وأصدقائه وسيلة للدفاع عمّا يسعى إلى تحقيقه، ولم يترك جهة شكك في نواياها إلا وافتعل معها أزمة.
وضع نتنياهو جدولا بعد الحرب، وحقق غالبية بنوده بالقوة تارة والمراوغة تارة أخرى، وعندما استشعر أن عملية طوفان الأقصى أعادت القضية الفلسطينية إلى دائرة الضوء على الساحة الدولية وبدأ الحديث عن حل الدولتين قام بهدم الكثير من المرتكزات الصلبة والناعمة لهذا الطريق، كي يبدو من يريد السير فيه هائما، وسلّط المتطرفين على ارتكاب الكثير من المحرمات السابقة في القدس المحتلة، والتوسع في الاستيطان، وتصفية الجيوب الحقيقية والمشكوك فيها للمقاومة في الضفة الغربية.
يعمل رئيس وزراء إسرائيل بوتيرة متسارعة بعد هدم غزة، بشرا وحجرا، على وضع العراقيل في كل المناحي الأمنية والسياسية، مستفيدا من عدم قدرة أو بمعنى أدق عدم رغبة المجتمع الدولي في التصدي له، وصعوبة حشد الجبهة الداخلية ضده، التي تعاني من تشرذم وانقسام وتفتت مكّنه من الاستقواء على المعارضة، ووجد البعض أنفسهم يقفون في خندق نتنياهو ذاته، ومنهم من تبنى خطابا قريبا منه، وإن جاءت تفاصيله مختلفة، فالسرديات التي يتبنّاها بشأن حماس يصعب أن يعارضها الكثيرون، متطرفون وغير متطرفين، وهي النقطة الخلافية الواضحة حول عقد صفقة الأسرى، التي يتمنى أن يستيقظ ويجد حماس قد خلّصته منهم جميعا.
يجيد رئيس الحكومة الإسرائيلية الهجوم السياسي، ويستخدم من المفردات ما يجبر خصومه على تليين قبضتهم معه، لأنه حريص على تقديم نفسه باعتباره حامي حمى الدولة اليهودية في نسختها الجديدة، والتي تعتمد على القوة المفرطة، ولا مجال فيها لمواءمات أو صفقات خفية.
وإذا كان استفاد من تصاعد نفوذ حماس في غزة وضرب السلطة الفلسطينية، فهذه السياسة انتهت بعد أن كبدت إسرائيل خسائر فادحة، والاستدارة التي قام بها نتنياهو ترمي إلى قطع الصلة مع تصورات الماضي، تجاه ترك مساحة لحماس تتحرك فيها، ومنح قطر ضوءا أخضر لدعمها ماديا وعدم التشدد في ما يتعلق بحصولها على الأسلحة.
تجنب نتنياهو استخدام الأدوات الدبلوماسية لتحقيق أهدافه، ولجأ إلى الخشونة النظرية والعملية ليؤكد عدم تراجعه عن مخططاته، ولعل موقفه من ممر فيلادلفيا وإصراره على البقاء فيه ومضايقاته للحكومة المصرية يكفي للتدليل على أن نتنياهو الذي نراه وجد في الأزمات بابا يلج منه للبقاء في السلطة، والسعي لتقويض من يمكنهم مضايقته، من خلال وضع المزيد من المطبات الأمنية والسياسية، يكفي التعثر فيها لتمكينه من المضي في مشروعه، والذي يرتكن على إنهاء حلم الدولة الفلسطينية.
منحت قوات الاحتلال إشارة البدء أخيرا لقوات من وحدات مختلفة للتغول في عدد من مدن ومخيمات الضفة الغربية، ومحاولة خلق خريطة طبوغرافية جديدة، تتسق مع ما جرى في قطاع غزة، والذي تغيرت الحياة فيه، بالصورة التي يصعب توقع عودتها إلى سيرتها الأولى، حيث لا يزال يراوده مخطط التهجير ونقل جزء من سكانه إلى مصر، ونقل جزء من سكان الضفة إلى الأردن، وتصدير مشكلة مادية ومعنوية إليهما، يستفيد منها في تشتيت الانتباه الخارجي بعيدا عن اتمام الصفقة ووقف إطلاق النار.
قادت التعقيدات الإسرائيلية المتواصلة إلى إشاعة نوع من الإحباط السياسي لدى الولايات المتحدة ومصر وقطر، بما جعلها تتفرغ لتفكيك الأزمة مع نتنياهو قبل التفرغ للوساطة بينه وبين حماس، فالإدارة الأميركية بقيادة الرئيس جو بايدن على وشك أن تصل إلى قناعة بصعوبة عقد الصفقة، والتخلي عن كل أوجه التفاؤل التي أشاعتها الفترة الماضية بعد أن وصلت إلى ما يشبه اليقين من أن نتنياهو يستنزف الوقت للوصول إلى محطة الانتخابات الأميركية بلا صفقة مع حماس، ويحرم المرشحة الديمقراطية كاميلا هاريس من نصر سياسي يساعدها على تسجيل عدة نقاط في مرمى المرشح الجمهوري دونالد ترامب، والذي يجد نتنياهو فيه حليفا قويا.
حقق نتنياهو هدفه في شغل القاهرة بممر فيلادلفيا، وتخفيف اهتمامها بالوساطة ووقف إطلاق النار ووضع قطار القضية الفلسطينية على القضبان، فالحديث الجاري عن مخططاته للممر، وتفاصيل النقاط التي سيخرج منها أو يتمركز فيها، والكيفية التي يمكن أن ترد بها مصر على صلفه، وأسئلة كثيرة تتولد عن هذه الأزمة، ليس من بينها وقف إطلاق النار أو الخطوة التالية لوقف الحرب، والجهة التي تدير القطاع، بعد أن جرى تعيين قائد إداري لغزة، وهي مفاجأة في سلسلة مفاجآت نتنياهو التي لا تنتهي.
تمكن رئيس الحكومة الإسرائيلية من أن يغرق كل من حوله في مجموعة كبيرة من التفاصيل، بالشكل الذي يمكّنه من الهروب إلى الأمام، مستغلا الفوبيا التي تعم إسرائيل من حماس والمقاومة وحزب الله وإيران، فقد نفخ في كل هؤلاء بما حوّلهم إلى كائنات مخيفة، يجب التعامل معها بقسوة مبكرا، كي لا يجد مواطنو إسرائيل أنفسهم أمام طوفان أقصى آخر، ما يجعل شريحة منهم تقبل بسيناريوهات نتنياهو، وإن اختلفت معها، فالصورة الذهنية التي خلقها باتت كفيلة أن تأخذه لضربات إجهاضية صارمة.
لا تضمن القيادة العسكرية في إسرائيل تكرار هذه الفرصة لكسر شوكة أذرع إيران والجهات التي تعد رأس حربة لها في المنطقة، وتعمل على تهيئة الأجواء التي تساعدها على تقويضها، فكما أجهزت على القوة الرئيسية لحماس، تريد القيام بهذا الدور مع حزب الله، مع مراعاة الفروق العسكرية بينه وبين حماس، حيث يملك الحزب قوة أضعاف ما كانت عليه الحركة، ما يعني أن الحرب الاستباقية قد تكون خيارا مناسبا.
ظهرت ملامح عديدة للهجوم السياسي على حزب الله في خطابات نتنياهو وكبار القادة العسكريين، بما يفيد أن حرب غزة ربما تنتقل إلى لبنان إذا أنهى نتنياهو بنك أهدافه في القطاع، لأن فكرة وقف الحرب في الوقت الحالي مرفوضة، ولا توجد دوافع تجبره على ذلك، بل يرى أن الفرصة مواتية لإنجاز حزمة من الأهداف الإستراتيجية المؤجلة، ورسم خارطة لواقع يريد أن يتعامل معه، ويتفرغ لما يليه من ترتيبات جديدة في المنطقة، لا تجعل إسرائيل رهينة لأيّ من القوى المناوئة لها، أو تعيش تحت رحمة انتظار طبيعة الضربة التي يمكن أن تتلقاها من أيّ جهة قريبة أم بعيدة.