هاني مسهوريكتب:
لماذا علينا أن نُعيد تعريف الصراع في الشرق الأوسط
منذ أبريل 2024، كُسر “حاجز الخوف” بين إسرائيل وإيران، ومنذ ذلك الهجوم، كان على العرب أولًا أن يُعيدوا تعريف الصراع في الشرق الأوسط. بواقعية مؤلمة، لا بد أن تقبل شعوب المنطقة العربية حقيقة أن الصراع العربي – الإسرائيلي فعليًا قد انتهى، وصار شيئًا من إرث التاريخ الماضي. لم يعد من المقبول بحال من الأحوال تصوير القضية على أنها صراعٌ مرتكزٌ على ما حدث في نكبة العام 1948. ومن المؤكد أن شعوب المنطقة ستُعاني رفضًا لهذا المنطق، غير أنها لا بد أن تعي أن الحقيقة، وإن كانت موجعةً، عليها أن تتقبلها كما هي. هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023 صنع نقطةً فاصلةً بين التعريفات، وصنع تحولًا عميقًا في قواعد اشتباك لم تعد موجودةً منذ تلك اللحظة تمامًا. مفهوم الصراع القومي انتهى، وعلينا في المنطقة أولًا، ثم المجتمع الدولي، القبول بهذا المُتغيّر الحادّ الذي فرضته القوى الأيديولوجية في منطقة لا تقبل الخروج من دائرة أنها أصل الحضارات والأديان، فهذه طبيعة تكوينها، ومن طبيعة التكوين التطور، وما حصل هو تطورٌ في الصراع على هذه المنطقة.
لأكثر من سبعة عقود، ظلّ التعريف للقضية الفلسطينية مرتكزًا على أنه صراعٌ عربي – إسرائيلي. خاضت دول العالم العربي، من بعد الحرب العالمية الثانية، حروبها على هذا التعريف، وتشكل في الوجدان والوعي القومييْن العربييْن أن الصراع على أن فلسطين هي أرضٌ عربيةٌ لا تتجزأ من التراب العربي. فاسترداد الحق العربي، وإقامة الدولة الفلسطينية على ما تبقى من بعد حرب الأيام الستة عام 1967، بقي هو التحدي القومي الذي على أساسه أبقى العرب على حقوقهم السياسية بموجب ما أنتجه مؤتمر اللاءات الثلاث في الخرطوم (لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق لأصحابه). هذه القاعدة لم تتغير بالمطلق، حتى مع وصول الخميني إلى حكم إيران في العام 1979، بل إن الرئيس المصري محمد أنور السادات فرض قاعدةً سياسيةً واقعيةً في مفهوم الصراع عندما أبرم معاهدة السلام في كامب ديفيد مع إسرائيل، بأن تكون ورقة السياسة جزءا آخر من أوراق الصراع لإقامة الدولة الفلسطينية.
قدمت الشعوب العربية فصولًا متعددة في سبيل دعمها للشعب الفلسطيني. الأردن كان في خط النار عام 1968 قبل أن يأتي لبنان عام 1978. وفيما كانت دول وطنية عربية على طول الأرض العربية تعطي لممثلي حركة فتح الفلسطينية، باعتبار ياسر عرفات رمزًا سياسيًا حاصلًا على الشرعية السياسية الكاملة من مؤتمر الخرطوم 1967، الدعم السياسي والعسكري لإقامة الدولة الفلسطينية، كانت في اللاوعي تتخمر المادة الأيديولوجية التي تغدق عليها تيارات الإسلام السياسي كل ما يمكنها أن تحصل عليه من قطرات زيت لسكبه على ماء الصراع المتفجر. كانت كل المنظومة السياسية العربية تضع في تفكيرها قاعدة لم تغادرها أبدًا، ألا وهي إقامة الدولة الفلسطينية.
التسوية السياسية الصعبة في الشرق الأوسط تعقدت أكثر من أيّ وقت في التاريخ. لبنان والعراق وشمال اليمن مناطق مؤهلة للولوج إلى حروب أهلية لعدم قدرتنا في العالم العربي على القبول بحقائق التعريف
في العام 1981، قدّم الملك فهد، الذي كان حينها وليًا للعهد في السعودية، أول مبادرة للسلام مع إسرائيل في قمة فاس المغربية. وأعاد الملك عبدالله بن عبدالعزيز، في العام 2002، إنتاج مبادرة السلام في صيغة واضحة (إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليًا على حدود 1967، وعودة اللاجئين، والانسحاب من هضبة الجولان المُحتلّة، مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية مع إسرائيل). مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 عبّد الطريق لمعاهدة وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، تلاهما اتفاق أوسلو عام 1993 الذي منه انتزع ياسر عرفات الاعتراف بمسار إقامة الدولة، وكانت صفقةً كبرى في سياق مفهوم الصراع العربي – الإسرائيلي. الفلسطينيون حصلوا على سلطة وحكم ذاتي بعد عقود من اللاوجود السياسي، لم تستوعب الذهنية الشعوبية قيمة الصفقة حتى وهي تُشاهد إسحاق رابين يُغتال في تل أبيب على يد مُتطرف يهودي.
كانت لحظةً مشهديةً كبرى في ما يجب أن تَعيه المنطقة والعالم، فكما أن العرب كانوا قد أخطأوا عندما لم يتنبّهوا إلى أن في كهوف تورا بورا وقندهار تختمر أفكارُ جماعة الإخوان المسلمين، التي حوّلت الكهوف إلى معامل لتخصيب أفكارها، وصنعت منها موادَّ مُتفجّرةً ضربت العواصم العربية أولًا، ثم ذهبت لِتُطلق هجومها الإرهابي الكبير على أبراج مانهاتن في الولايات المتحدة في هجمات 11 سبتمبر 2001، وكما كان العرب في غفلة، كانت إسرائيل كذلك في الغفلة نفسها، فهناك من كان يعمل على إذكاء نوعية مُضادّة لمفهوم الدولة الإسرائيلية، وكان معنيًّا تمامًا بإعادة تعريفها على حدود تعريفها في التلمود بإقامة الدولة اليهودية الكبرى.
لم تكن أسماء بن غوريون وغولدا مائير وموشيه دايان وحتى أرييل شارون سوى مقدمات لإنتاج النسخة المتشددة إسرائيليًا، بن غفير وسموتريتش وغيرهما من الذين حصل عليهم بنيامين نتنياهو في موقعة تشكيل الوجه الآخر من الدولة الإسرائيلية. إسرائيل اليمينية تقابلها إيران المتسلحة ليس بالصواريخ البالستية وتقنيات الطائرات المسيّرة بل بألوف مؤلفة من عناصر الإخوان المسلمين بكافة أذرعهم، داعش، القاعدة، وكلها مسميات لشيء عقائدي بيد المرشد في طهران. حتى اليساريون العرب الساخطون لمجرد السخط انساقوا إلى المعسكر الإيراني، فأيديولوجيا تقابل أيديولوجيا، والتطرف ينتج تطرفًا يقابله، وهذه هي طبيعة الكون، فلا يمكن إلغاء الطبيعة تحت مبررات أخرى لا تصل إلى حقيقة أن المفهوم الوطني بات ضيقًا ومحصورًا بين القاهرة وأبوظبي، العاصمتين المتمسكتين بقوة على ما يجب أن يبقى من إرث الدولة الوطنية الفلسطينية العربية.
ضرورة تعريف الصراع جزء لا يتجزأ من الحل، علينا الإقرار بحقائق الأشياء والاعتراف بها، فكما تجرأت جماعة الحوثي على تحويل اليمن إلى قنبلة نووية متفجرة في باب المندب، فإن في المقابل إسرائيل تجرأت على أن تطلق طائراتها لتقطع أكثر من ألفي كيلومتر، هي طول البحر الأحمر كاملًا، لتقصف ميناء الحديدة في اليمن وتقول لكل المنطقة إن عليها أن ترى طول اليد الإسرائيلية وأن ترى حجم النار المشتعلة. هذه الحقيقة ليست الوحيدة، فقد اغتالت إسماعيل هنية في وسط طهران، وعادت واخترقت السيادة العراقية والسورية بل وقضمت أجزاء من التراب اللبناني. هذه حقائق وليست أشياء أخرى فرضتها إسرائيل كما فرضت إيران حقائق أذرعها على دول شمال اليمن ولبنان والعراق وسوريا. مع هذه الحقائق لم يعد من الواقعية السياسية البقاء عند تعريف هوية الصراع على أنه قوميّ – عربي -إسرائيلي، الصراع دينيّ – عقائدي عابر لحدود الأوطان العربية.
التسوية السياسية الصعبة في الشرق الأوسط تعقدت أكثر من أيّ وقت في التاريخ. لبنان والعراق وشمال اليمن مناطق مؤهلة للولوج إلى حروب أهلية لعدم قدرتنا في العالم العربي على القبول بحقائق التعريف. فلو أن العرب أقروا بأن عليهم القبول بإعادة تعريفهم للحقائق لاستطاعوا الوصول إلى الصيغة المنطقية التي أنتجت معاهدة السلام المصرية والاتفاقيات الإبراهيمية. فدون التعريف الصحيح لن يخرج العرب من الدوامة التي سيغرقون فيها أكثر طالما ما زال بعضهم يعتقد أن العقل الإيراني سيتحوّل من فكرة الثورة إلى الدولة، وأن إسرائيل المتشددة يمكنها أن تعيد إنتاج رابين آخر. هذه التصورات هي أوهام تستنزف العرب وتبقيهم خارج معادلة الواقعية التي من دونها لا يمكن للسياسة أن تكون فعلًا من مفاعيل الواقع.