هاني مسهوريكتب:

الجولاني... إرهابي بلا سقف زمني

يبدو أن زعيم هيئة تحرير الشام أبومحمد الجولاني يعيش معركة لم تكن تدور في خلده وهو يتحضّر للعب دور الفاتح العظيم لعاصمة الأمويين دمشق. كبرى وسائل الإعلام الأميركية والبريطانية، ومعها حزمة من القنوات العربية، تبحث عن الصيغة التي تخرج بها الجولاني ليُصبح أحمد الشرع. وهذه مسألة مهمة قد لا يُدركها العقل الغربي ولا حتى الشرقي، ولكن العرب يدركونها ويعلمون مفاصلها، ومن المؤكد أن الجولاني نفسه، وهو كان يجالس أبا مصعب الزرقاوي ويناقشه في شروط البيعة (وهي العقدة التي علق فيها الجولاني ورفاقه)، يُدركها أيضًا.

تبقى قضية خلع البيعة إحدى أصعب القضايا الدينية في كلا المذهبين السني والشيعي في الإسلام، وقد خاض الجولاني مع قيادات تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، سجالات مشهودة مواقعها، انتهت بتكفير كلّ طرف للطرف الآخر، وأفضت إلى قتال كما كان بين أمراء حرب أفغانستان في تسعينات القرن العشرين. إذًا، في السياق العام، هي قضية ممتدة عبر التاريخ الإسلامي وليست مستجدة لغير المستجدّين على ظهور الجولاني عبر قنوات الدول “الكافرة” كما يصفها هو ورفاقه (في إشارة إلى الدول الغربية)، فبحسب عقيدتهم هي بلاد كفر تجوز محاربتها وقتالها وسبي نسائها وأخذ أموالها وأملاكها.

التحدي الأكبر الذي يواجه الغرب والعرب على حد السواء هو كيفية التعامل مع شخصيات مثل الجولاني، تحاول الاستفادة من ثغرات النظام الدولي لتعيد إنتاج نفسها بوجوه جديدة

في عام 1998 ظهر بن لادن على شاشة إخبارية دولية مهددًا متوعدًا، ثم ما لبث أن تفاجأ العالم بتفجيرات دموية ضربت السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا. كان بن لادن عائدًا من أفغانستان، محققًا للأميركيين انتصارهم على السوفييت، ومكفّرًا حكام السعودية لاستعانتهم بالأميركيين لمساعدتهم على تحرير الكويت. وهو نفسه الذي تكفّل بمعاونة الأميركيين في غزو اليمن الجنوبي لدحر آخر معاقل الشيوعيين العرب. ثم أعاد أسامة بن لادن إنتاج الصورة الأكثر بشاعة للإسلام عندما قرر مهاجمة أميركا في هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001.

وكما هو المعلم أسامة بن لادن يسير التلميذ أبومحمد الجولاني أو كما يراد أن يتم تقديمه بالوجه العلماني أحمد الشرع، الأزمة ليست في شخصه بل في عقيدته الأيديولوجية… والتي تستند إلى تأويل متطرف للنصوص الدينية يرفض التعددية ويبرر العنف لتحقيق أهداف سياسية. الجولاني، في هذا الإطار، يمثل امتدادًا لفكر القاعدة الذي يعتمد على مقاربة تضع “النص” فوق أي اعتبار إنساني أو سياسي، وهو ما يجعل من أي محاولة لتسويقه كشخصية سياسية مقبولة عملية محفوفة بالفشل.

لكن ما يثير الانتباه في التحولات التي طرأت على خطاب الجولاني في السنوات الأخيرة هو محاولاته المتكررة لإعادة تموضعه، من خلال تخفيف لهجته العدائية ضد الغرب، ومحاولة الظهور بمظهر السياسي البراغماتي. هذا التحول لم يكن بدافع مراجعة فكرية حقيقية، بل هو نابع من ضغوط الواقع الميداني، واحتياجاته للحفاظ على الدعم المالي واللوجستي من الجهات التي كانت في السابق خصمًا أيديولوجيًا له.

الأزمة هنا لا تكمن فقط في الشخص، بل في النهج الذي يمثله. هذا النهج يقوم على اعتبار العنف الوسيلة الوحيدة لتحقيق الغايات، وهو ما يتناقض مع أي محاولة لإضفاء شرعية سياسية عليه. فحتى لو خلع الجولاني عباءة “الإرهاب”، فإنها ستظل تلاحقه، لأن الأيديولوجيا التي يعتنقها ليست قادرة على التعايش مع مفاهيم الدولة الحديثة أو حقوق الإنسان.

كبرى وسائل الإعلام الأميركية والبريطانية، ومعها حزمة من القنوات العربية، تبحث عن الصيغة التي تخرج بها الجولاني ليُصبح أحمد الشرع

التحدي الأكبر الذي يواجه الغرب والعرب على حد السواء هو كيفية التعامل مع شخصيات مثل الجولاني، تحاول الاستفادة من ثغرات النظام الدولي لتعيد إنتاج نفسها بوجوه جديدة، دون أن تقدم أي ضمانات حقيقية لتغيير السلوك.

في المحصلة، الجولاني يبقى إرهابيًا حتى إشعار آخر، ليس فقط بسبب تاريخه الدموي، بل لأن البنية الفكرية والتنظيمية التي ينتمي إليها لا تزال قائمة على فكرة استخدام الدين كغطاء لتحقيق أجندات سياسية تتناقض مع القيم الإنسانية العالمية. إنّ محاولة تجميل صورة الجولاني وتقديمه كشخصية معتدلة، ما هي إلا محاولة يائسة لإعادة تدويره كأداة جديدة في لعبة الأمم. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن الوثوق بشخصٍ تربّى على الإرهاب وتشرب أفكاره؛ هل يمكن أن يتحوّل الذئب إلى حملٍ بين ليلة وضحاها؟

إنّ الجولاني ومن لفّ لفّه مازالوا يحملون نفس العقلية المتطرفة التي تُحرّم وتُكفّر وتُبيح سفك الدماء باسم الدين. فمن يصف الدول الغربية بـ”الكافرة” ويُبيح قتالها وسبي نسائها لا يمكن أن يكون رجل سلام، مهما حاول البعض تلميع صورته. إنّ العالم اليوم في أمسّ الحاجة إلى نبذ التطرّف بكل أشكاله، ومحاربة الإرهاب فكريًا قبل أن يكون عسكريًا. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال فضح أصحاب الأفكار المتطرفة، وعلى رأسهم الجولاني، مهما حاولوا تغيير جلودهم أو التخفي وراء أقنعة زائفة. فالإرهاب لا دين له ولا وطن، وخطره يُهدّد الجميع دون استثناء.