هاني مسهوريكتب:

خامنئي.. نصرٌ في الوهم وخسائر في الواقع!

لا يكفّ المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي عن نشر منشورات على حسابه في منصة إكس الأميركية، يُؤكّد فيها انتصار محوره الإيراني في ما سمّوه “طوفان الأقصى”، وليس هو وحده من يُردد شعارات الانتصار على إسرائيل، فكلّ جماعات وأفراد الإسلام السياسي يُرددون ما يقوله المرشد. فهذه حالةٌ أُخرى من إجماع خُصوم المذاهب الدينية المُتعصّبة، فكلهم يتفقون بأنهم لقّنوا الإسرائيليين درسًا مؤلمًا لم يعرفوه من قبل، غير أنّ المشاهد المُهينة للشعب الفلسطينيّ وهو يعود نازحًا من شمال قطاع غزة إلى جنوبها، بعد استسلام حركة حماس وقبولها بِهدنة وقف إطلاق النار، هي المشهد الوحيد الذي يبدو صادقًا، ولا يُمكن تكذيبه. مئات الألوف من الجوعى والخائفين يعودون إلى رُكام بيوتهم المُدمّرة، هذا هو المشهد الذي على خامنئي أن يكون صادقًا وهو يراه ويُتابعه، كما يراه كلّ العالم ويُتابعونه.

ما يطلق عليه خامنئي “صمود الشعب الفلسطيني” هو في الواقع جوع وخوف ووجع لا حدود له. مفهوم الصمود أمام كل هذا الهجوم الإسرائيلي لا وجود له، فقيادات حركة حماس التي نفذت هجوم 7 أكتوبر 2023 لم تكلف نفسها عناء التفكير في مصير مئات الآلاف من المدنيين العزل. لم تبنِ لهم ملاجئ، ولم تُوفّر لهم أدنى احتياجات الطعام والشراب، بل لم تُوفّر لهم حتى ممراتٍ آمنة ليبتعدوا عن مناطق الاشتباكات.

بل على العكس من كل ذلك، وجدت قيادات حماس، كما اعتادت، أن تجعل من المدنيين دروعًا بشرية وفقًا لفتاوى ابن تيمية وتلاميذه ومن سار على نهجه. الأهم أن ألوفًا من البشر عادوا إلى ركام لم تعد لهم بيوت أو مستشفيات أو مدارس أو طرقات أو أرصفة. كل ما تبقى هو الركام.

لقد حان الوقت لإعادة تعريف مفهوم الانتصار، ليس من منظور الشعارات السياسية الفارغة، بل من خلال واقع الشعوب التي دفعت الثمن

نشرت قناة الجزيرة الإخبارية التي تقول دائماً إن حماس انتصرت تقريراً مفصلاً بعنوان: “التحدي الهائل لإعادة إعمار قطاع غزة.. حقائق وأرقام”، تضمن (أن إزالة أكثر من 50 مليون طن من الركام الذي خلفه القصف الإسرائيلي قد تستغرق 21 عاما وتكلف 1.2 مليار دولار)، ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة، تصل التكلفة الإجمالية لإعادة بناء ما دمرته الحرب إلى 40 مليار دولار، وستستغرق عملية إعادة بناء جميع الوحدات السكنية المدمرة نحو 80 عاما، وذكر تقرير للأمم المتحدة والبنك الدولي أن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية تقدر بنحو 18.5 مليار دولار حتى نهاية يناير 2024، وأثّرت على المباني السكنية وأماكن التجارة والصناعة والخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والطاقة.

هذا جزء من حقيقة الحال في قطاع غزة وهو ما يعيدنا إلى المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي المعنيّ الأول والأخير بإعمار ما خلفه هجوم السابع من أكتوبر الذي باركه وأيّده، حتى وإن جاء جواد ظريف أخيراً ليتهم حماس بأنها قوضت مفاوضات إيران مع الولايات المتحدة فالحقائق لا يمكن طمسها أو حتى التلاعب بها بخفّة أو بمناورات سياسية. فالحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن الشعب الفلسطيني يدفع ثمنًا باهظًا نتيجة الصراعات التي تُدار باسمه وباسم قضيته، بينما تبقى القيادات السياسية والعسكرية بعيدة عن وطأة المعاناة اليومية التي يعيشها المدنيون.

خامنئي، الذي يتبنى خطابًا دينيًا وسياسيًا يعتمد على استثمار القضية الفلسطينية لتعزيز نفوذ إيران الإقليمي، يبدو بعيدًا كل البعد عن واقع الحال في غزة. فبينما يرفع شعارات الانتصار، يغض الطرف عن الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية والحياة اليومية للفلسطينيين. إنّ الحديث عن “صمود” و”انتصار” في ظل هذه الظروف يبدو وكأنه محاولة لتجميل صورة قاتمة، حيث لا يزال الآلاف يعانون من نقص الغذاء والماء والدواء، ويعيشون في ظروف إنسانية مأساوية.

مئات الألوف من الجوعى والخائفين يعودون إلى رُكام بيوتهم المُدمّرة، هذا هو المشهد الذي على خامنئي أن يكون صادقًا وهو يراه ويُتابعه، كما يراه كلّ العالم ويُتابعونه

من الواضح أن الخطاب الإيراني، ممثلًا بخامنئي، يعتمد على إستراتيجية طويلة الأمد لاستخدام القضية الفلسطينية كأداة لتعزيز مكانة إيران كقوة إقليمية. ولكن في الوقت نفسه، يبدو أن هذه الإستراتيجية تتجاهل تمامًا التكلفة البشرية الهائلة التي يتحملها الشعب الفلسطيني. فبينما تُعلن إيران عن دعمها لحماس وتتبنى خطابًا مقاومًا، فإنها لا تقدم حلولًا حقيقية لمعاناة الفلسطينيين، ولا تبدو مستعدة لتحمل مسؤولية إعادة إعمار ما دمرته الحرب.

إن ما يحدث في غزة هو مأساة إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. والحديث عن انتصارات وهمية لا يغير من حقيقة أن الشعب الفلسطيني يعاني يوميًا من تبعات صراع لا يبدو أن له نهاية في الأفق. على خامنئي، وعلى كل من يدعي دعم القضية الفلسطينية، أن ينظروا إلى الواقع بعين صادقة، وأن يعملوا على تحمل مسؤولية إعمار غزة، أما العواصم العربية والمدن والقرى التي سُحقت في ما أسماه حسن نصرالله طريق القدس، فهذه ستعيد إعمارها شعوبها التي بدأت من بيروت تنفض غبار الوهم، وتعيد تعميد وطنها المنزوع من الأيديولوجيات الدينية العفنة.

ليس مطلوبًا من أحد إعمار غزة، لقد شاهد العالم كيف دخلت الآلاف من شاحنات الإغاثة عبر معبر رفح المصري تحمل أعلام الدول العربية كلها. لم تكن إيران موجودة ولن تكون ضمن هذه القوافل، لم تتوقف الإمارات عن إغاثة الفلسطينيين، وبقيت وحيدة تُطعم وتُسقي. المواقف العربية، المصرية والأردنية، مشكورة ومُقدّرة عند الأقوام التي تُقدّر وتعرف معنى الإنسانية. الآن، الموقف المطلوب من خامنئي أن يُعيد إعمار غزة ليسقط مشروع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يرغب في تهجير أهل القطاع. يبقى السؤال الذي يجب أن يُطرح: هل سيجرؤ خامنئي على إعلان مسؤوليته الكاملة عن إعادة إعمار غزة، كما أعلن دعمه لحماس وهجومها في 7 أكتوبر، أم أن إيران ستكتفي كالعادة برفع شعارات المقاومة وترك الفلسطينيين وحدهم يواجهون تبعات كارثية لا يمكن وصفها بالنصر إلا لمن اعتاد تزييف الحقائق.

لقد حان الوقت لإعادة تعريف مفهوم الانتصار، ليس من منظور الشعارات السياسية الفارغة، بل من خلال واقع الشعوب التي دفعت الثمن. أما غزة، فمصيرها لن تحدده خطابات خامنئي ولا منشوراته على منصة إكس، بل إرادة أهلها، الذين يجب أن يسألوا أنفسهم: كم مرة سيدفعون ثمن “الطوفان” الذي أغرقهم وجوّعهم وأهانهم.