فاروق يوسف يكتب:
مَن هم الفاسدون في العراق؟
مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية في العراق تصاعدت وتائر التنديد بالفساد والفاسدين إلى الدرجة التي تدعونا إلى الاعتراف بأن العراق هو البلد الوحيد في العالم الذي يتطابق فيه رأي الشعب والسياسيين في الدعوة إلى محاربة الفساد بشكل استثنائي.
الجميع هناك يقف ضد الفساد. الفقراء والأثرياء. المنبوذون وأصحاب الامتيازات الخاصة. الخدم والسادة. العلمانيون والمعممون. العامة والخاصة. المثقفون وباعة الملابس المستعملة. المعارضون والمستفيدون من غنائم نظام المحاصصة الطائفية. القتلة السابقون والقتلة الجدد. أئمة المساجد وزعماء الميليشيات التي ارتكبت أبشع الجرائم.
في كل لحظة يبدو العراقيون هذه الأيام كما لو أنهم يخرجون في تظاهرة ضد الفساد. لم يعد لديهم ما يجمعهم سوى الهجوم على الفساد. وهو ما يشير في ظاهره إلى صحوة نموذجية بعد ليل الأحزاب الدينية الطويل.
لقد دمر الفساد حياة العراقيين. هذا صحيح. الفساد أذلهم وقهرهم وانحرف بأخلاقهم فصاروا إما مسروقين أو لصوصا. حطم الفساد قيمهم وأعرافهم وحقائق حياتهم، وسرق أجمل ما يملكون وهو التكافل الاجتماعي والتسامح في النظر إلى الآخر المختلف. الفساد حرمهم من أنظمة التعليم والصحة وخدمات البنية التحتية، وهو الذي دمر قدرتهم على أن يروا الحقائق كما هي. فلا دينهم سويّ ولا دنياهم نضرة.
إذا كانت الطبقة السياسية التي حكمت العراق عبر اثنتي عشرة سنة تدعو اليوم إلى محاربة الفساد، فمن الذي أوصل العراق إلى المرتبة الأولى في سلم الدول الفاسدة؟
كل هذا صحيح ولكن الفساد ليس ظاهرة تجريدية أو ذهنية. وهنا يبرز سؤال قانوني هو “مَن هم الفاسدون؟” لا فساد من غير فاسدين.
فإذا كانت الطبقة السياسية التي حكمت العراق عبر اثنتي عشرة سنة تدعو اليوم إلى محاربة الفساد، فمَن الذي أوصل العراق إلى المرتبة الأولى في سلم الدول الفاسدة ومَن هم الفاسدون؟
كان أحد أعضاء مجلس النواب العراقي صريحا بطريقة فاجعة حين قال ذات مرة على شاشة التلفزيون “كلنا فاسدون”، ولكن ذلك الاعتراف لن يكون حجة دامغة إلا إذا تدخلت السلطة القضائية في تأكيد الوقائع من خلال وثائق لا يتخللها الشك. وهو ما لا يمكن توقع حدوثه في العراق. ذلك لأن السلطة القضائية هي الأخرى تحوم حولها شبهات الفساد. ألم تبرئ تلك السلطة سليم الجبوري، وهو رئيس مجلس النواب، من تهم الفساد التي وجهت إليه خلال ربع ساعة؟
لقد تسممت حياة العراقيين بالفساد. رائحة الفساد العفنة تنبعث من كلامهم وثيابهم وطريقة عيشهم وأسلوب نظرهم إلى العالم وطريقة تعاملهم مع الحقيقة. هم كائنات مفسدة، وهم في الوقت نفسه ضحايا ماكنة فساد عظيمة لا قدرة لشعب تعرض للتجهيل والتضليل عبر سنوات مضنية على مقاومتها.
في سياق المنطق السليم يمكن القول إن الفاسدين هم من أوصل العراق إلى المرتبة العليا في سلم الدول الفاسدة. وهو منطق نظري لا يمكن أن يهتدي إلى صلابته الواقعية ويمسك بعصا العقاب إلا من خلال وثائق قانونية.
ما صرح به نوري المالكي، وهو عميد أكاديمية الفساد في العراق، من أنه يملك ملفـات كثيرة تـدين الفاسدين هو أمـر لا يمكن الاستهانة به، ذلك لأن ذلك الرجل الذي عاش حياة، يكمـن سر نجـاتها في التآمر على الآخرين عرف جيدا كيف يجر الجميع إلى مستنقع الفساد. وهـو يدرك أنه عن طريق ذلك لن يكون الفاسد الوحيد. وهنا علينا أن نعترف أن الرجل نجح في تنفيذ مخططه.
غير أن المالكي حين يهدد خصومه السياسيين بتلك الملفات، فإنه من حيث لا يدري يفصح عن فساده الشخصي. كان يومها رئيسا للسلطة التنفيذية وهو ما يؤهله للتصدي للفاسدين بحكم منصبه، لا أن يتستر عليهم من خلال الاحتفاظ بملفات يمكن أن يستعملها في عمليات النيل من خصومه.
المالكي الذي يعترف اليوم من خلال شعاراته الانتخابية بأنه أهدر ثروة العراق يضفي طابعا إنسانيا على ما فعله. ذلك لأنه كما يقول كان قد وزع تلك الثروة المنهوبة بطريقة ارتجالية على أرامل وأيتام وفقراء عراقيين، وهو يقصد أعضاء حزب الدعوة الذين صاروا بحكم ما حصلوا عليه من امتيازات أباطرة العراق الجديد.
كان المالكي ولا يزال مطمئنا إلى أن أحدا لن يطارده ولن يقبض عليه بتهمة الفساد ما دامت السلطة القضائية تدين بالولاء له. لذلك فإن الصراخ المندد بالفساد الذي يعلو اليوم في الفضاء العراقي ما هو إلا فقاعات تجريبية يمسك من خلالها الفاسدون بأماكنهم في السلطة.