د. ابراهيم ابراش يكتب:

المشكلة ليست في من يقاوم الاحتلال بل في الاحتلال ذاته

الحركة الوطنية الفلسطينية مسيرة نضالية متواصلة منذ مائة عام، حيث كانت أولى تمظهراتها التنظيمية مع الجمعيات الإسلامية المسيحية 1918 على إثر إعلان وعد بلفور 1917 وأخذت منحى صداميا مع الصهاينة وجيش الانتداب البريطاني مع هبة البراق 1929 وثورة القسام 1935 والثورة الكبرى 1936، وتواصلت مع الثورة الفلسطينية المعاصرة منتصف الستينيات وما زالت متواصلة اليوم مع مسيرات العودة والمواجهات على حدود غزة.

بالتأكيد لم تكن هذه المسيرة مبرأة من الاخطاء وأوجه الخلل في التخطيط الميداني وفي تحديد الأهداف وغياب استراتيجية وطنية جامعة ومحاولة بعض الأطراف توظيفها لأغراض حزبية وسلطوية ومن حالة عجز وتيه سياسي للطبقة السياسية، إلا أنه وبالرغم من كل ذلك أكد الشعب الفلسطيني عن استعداده للعطاء والتضحية بلا حدود، وكل أوجه النقد الداخلي أو التشكيك الخارجي لا تؤثر على حقيقة بات العالم يدركها وهي أن لا سلام واستقرار في المنطقة إلا بحصول الشعب الفلسطيني على حريته واستقلاله.

مما لا شك فيه أنه لا يمكن اعتبار الصبر والصمود وترديد الأحزاب والقيادات لشعارات التمسك بالثوابت الوطنية وعدم التنازل الخ انجازا أو انتصارا بحد ذاته، حيث من حق الشعب الفلسطيني بعد مائة عام من التصادم والمواجهات مع المشروع الصهيوني وسقوط مئات الآلاف من الشهداء وأضعافهم من الجرحى والمعتقلين بالإضافة إلى المعاناة في المخيمات والشتات... من حقه أن يلمس انجازا ملموسا على الأرض وأقله دولة ولو في حدود ما تمنحه له الشرعية الدولية، الأمر الذي يستدعي التساؤل عن مكمن الخلل: هل هو في عدالة القضية؟ أم في غياب العدالة عند المنتظم الدولي الذي لا يستطيع أن ينفذ قراراته ويُنصف الشعب الفلسطيني؟ أم في اختلال موازين القوى لصالح إسرائيل وتحالفاتها الدولية؟ أم في النخب السياسية الفلسطينية التي قادت النظام السياسي الفلسطيني من الحاج أمين الحسيني إلى الرئيس محمود عباس؟ أم في تضافر كل هذه العوامل؟ وهل من مخرج من الواقع الراهن؟

عدالة القضية وشرعية الحق الفلسطيني لا تقاسا بواقع النظام السياسي ونخبه ولا بالعجز والفشل في تحقيق الأهداف الوطنية، ولا تقاسا أو تؤسَسا على موازين القوى الراهنة حيث الحرب سِجال وموازين القوى غير ثابتة ومقاييس النصر والهزيمة لا تُحتسب عسكريا فقط بل بمدى استمرار الشعب متمسكا بحقه ثابتا على مواقفه مستعدا للنضال من أجل استعادة هذا الحق.

نقول هذا ونحن نسمع كل يوم من يشكك بمسيرات العودة كما شككوا قبلها بجدوى انتفاضة الدهس والطعن في الضفة قبل عامين وبالانتفاضات السابقة وبالعمل الفدائي قبل ذلك وقبله بالحركة الوطنية قبل 1948. يبني ويبرر المشككون بجدوى المقاومة الفلسطينية لإسرائيل موقفهم من الفرق في موازين القوى العسكرية بين إسرائيل القوة العسكرية الأولى في الشرق الأوسط وتحالفها القوي مع واشنطن من جانب وقدرات الشعب الفلسطيني الذي بقي وحيدا في مواجهة إسرائيل من جانب آخر. هذا التشكيك للأسف لا ينطلق من الحرص على دماء الشعب الفلسطيني بل لممارسة كي الوعي عندهم بالزعم إن لا فائدة من مقاومة الاحتلال وأن على الفلسطينيين القبول بما يتم عرضه عليهم من حلول وتسويات وصفقة القرن آخرها.

لا شك أن موازين القوى العسكرية تميل لصالح إسرائيل، ولكن في كل حروب التحرر الوطني كانت موازين القوى لصالح دولة الاحتلال، كما أن موازين القوى لا تُحسب عسكريا فقط بل انسانيا وأخلاقيا وقانونيا. وإن كانت إسرائيل متفوقة عسكريا اليوم فإنها في نظر العالم تخسر أخلاقيا من خلال حملات المقاطعة ضدها كما تخسر ورقة مهمة كانت تستقطب من خلال عطف وتأييد دول العالم وهي المظلومية والتميز الأخلاقي والإنساني التي كانت تروجها لنفسها، حيث تحولت من الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط الداعية للسلام والاستقرار والتي يحيط بها عرب يرفضون السلام ويريدون رميها بالبحر كما كانت تقول إلى دولة احتلال عنصري وابارتهايد وترفض السلام وتمارس الإرهاب ضد الفلسطينيين وترفض الشرعية الدولية وقراراتها، كما أنها وبكل ما لديها من قوة ودعم قوي من واشنطن لم تستطيع تجاهل حقيقة أن هناك 12 مليون فلسطيني نصفهم على أرضهم فلسطين ونصفهم الآخر في الشتات يطالبون بحق العودة، فماذا هي فاعلة؟

نعم، يمكن إبداء كثير من الملاحظات والانتقادات بل وممارسة جلد الذات فيما يتعلق بكيفية تدبير الفلسطينيين لأمورهم الداخلية وإدارة الصراع سواء دبلوماسيا أو عسكريا أو من خلال مسيرات العودة الأخيرة، ولكن ماذا يمكن للفلسطينيين فعله وقد مدوا أيديهم للسلام منذ ربع قرن دون تجاوب من تل أبيب وواشنطن؟ ماذا يفعلون وقد مارسوا العمل المسلح كحق تمنحه لهم الشرعية الدولية فتم اتهامهم بالإرهاب؟ ماذا يفعلون وإدارة ترامب تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وتلتف على حق عودة اللاجئين وترفض الشرعية الدولية وقراراتها حول فلسطين وتهيئ المنطقة لتسوية تصفي القضية الفلسطينية؟

بالرغم من كل ما يُؤخذ على المسيرة النضالية للشعب الفلسطيني طوال مائة عام إلا أنه لولا نضال الشعب الفلسطيني وصموده ما استمرت القضية الفلسطينية حية إلى اليوم.

 لولا نضال الشعب الفلسطيني ما بين صدور قرار بلفور 1919 وقرار التقسيم 1947 ما اعترفت الأمم المتحدة بحق الفلسطينيين في دولة ولو على نصف أراضي فلسطين ولكان تم تطبيق قرار وعد بلفور على كامل فلسطين.

ولولا انتفاضة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة 1955 ضد مخطط توطين اللاجئين في سيناء – مشروع جونسون- والذي قبلت به مصر لتم تصفية القضية الفلسطينية حينها.

ولولا انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة منتصف الستينيات لتم مسح الهوية الوطنية الفلسطينية واستمر التعامل مع القضية الفلسطينية كقضية لاجئين.

ولولا الانتفاضة الأولى –انتفاضة الحجارة – لتم تصفية الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير بعد ما تم إخراجها من لبنان 1982.

ولولا الانتفاضة الثانية عام 2000 ما اقتنع العالم باستحالة استمرار الفلسطينيين خاضعين للاحتلال وأن من حق الفلسطينيين أن يكون لهم دولتهم المستقلة.

ولولا انتفاضة القدس أو الانتفاضة الثالثة أو ما أُطلق عليها هبة الطعن والدهس لتم تهويد المسجد الأقصى ولكان وضع القدس والمقدسات أسوأ مما هو عليه.

خلال كل هذه الانتفاضات والمواجهات حدثت أخطاء كثيرة ولكن مكمن الخلل وأساسه لا يكمن في أخطاء الفلسطينيين وأسلوب ممارستهم للمقاومة بل في خطيئة الاحتلال وفي المتخاذلين والمتواطئين من عرب ومسلمين. نفس الأمر اليوم مع مسيرات العودة، الخلل الأساسي لا يكمن في كونها مقتصرة تقريبا على قطاع غزة وبدون استراتيجية وطنية تحدد آلياتها ومسارها وأهدافها، ولا في كونها موجهة من طرف حماس، بل الخلل الاحتلال وممارساته الاستيطانية والتهويدية واستمرار حصار غزة، والخلل في عدم تعميم مسيرات العودة لتشمل الكل الفلسطيني.

ولنتساءل بموضوعية، لو لم يتحرك الفلسطينيون بما هو متاح وممكن من وسائل كفاحية هل كانت إسرائيل ستنسحب من الأراضي المحتلة، وهل كان العالم سيتحرك لإنصافهم؟ ولو لم يتحرك فلسطينيو قطاع غزة رفضا للحصار وما يتم ممارسته ضدهم من تجويع وتفقير ممنهج لكسر جذوة الثورة والنضال عندهم هل كان العالم سيتحرك لرفع الحصار؟ لا نعتقد ذلك، وعليه فإن المشكلة لا تكمن في الثورات والهبات الفلسطينية بالرغم مما يصاحبها من تجاوزات وأخطاء بل في الاحتلال وفي تخاذل أنظمة عربية وإسلامية كانت مسئولة عن ضياع فلسطين، والخلل أيضا في نخب وقيادات فلسطينية لم تكن في مستوى عظمة الشعب بل وتاجر بعضها بدماء الشعب ومعاناته لصالح أجندة ومشاريع غير وطنية.

هذه الأشكال من النضال المسلح والسلمي إن لم تحقق الأهداف الوطنية فعلى الأقل ستبقي على جذوة النضال وستحفز الذاكرة الوطنية وتحافظ على حالة العداء مع الاحتلال وتذكير العالم بأن هناك شعب خاضع للاحتلال يجب مساعدته لينال استقلاله، وخصوصا بعد وصول عملية التسوية لطريق مسدود والخطر الداهم الذي يهدد القضية من صفقة القرن، ومن عنده حل أو خطة طريق غير الاستسلام لمشيئة العدو فليقدمها للشعب الفلسطيني.