ماهر فرغلي يكتب:

كيف يبرر الإرهاب استهداف السيّاح؟

استهداف باص سياحي بمحافظة الجيزة المصرية، الجمعة 28 كانون الأول (ديسمبر)، الذي أدّى إلى مصرع 3 وإصابة 14 فيتنامياً، بينهم مصريان، ومن قبله مقتل سائحتين، نرويجية ودنماركية، في المغرب، فتح الباب مجدداً للحديث عن استهداف السياح، وأسبابه، بعد أن أصبح من الأهمية بمكان أن نعرف ما هي الاستنادات، العقدية والفقهية، التي يستند إليها المستهدِفون، وكيف نفككها، خاصة أنّ الأنباء تترامى كلّ يوم حول مقتل بعض الأجانب على أيدي بعض المنتسبين لهذه الجماعات في هذا القُطر أو ذاك.

لقد برزت ظاهرة استهداف السياح بالقتل مع مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وكان هدفها الضغط على الحكومات، وإثارة الفوضى، والتأثير على الاقتصاد، ليكون ذلك ورقة للتفاوض، للإفراج عن بعض المعتقلين، أو إطلاق يد هذا التنظيمات.

يستند مرتكبو هذه العمليات الإرهابية على مقدمات باطلة ولّدت بالضرورة نتائج باطلة

لا بد أن نعلم، في البداية، أنّ السياحة لدى هذه التنظيمات جائزة شرعاً، إذا كانت علاجية أو ترفيهية أو ثقافية أو تأملية، أما إذا صاحبتها "معاصٍ"، وفق تصوراتهم، فتصبح "حراماً"، وتحديد ماهية هذه المعاصي فتح باباً واسعاً بين هذه التنظيمات، بين من يتوسّع بها ومن يضيّقها.

ويعدّ الجهاديون، السياحَ الأجانب "كفاراً"، فيقسمونهم إلى فئتين؛ أهل عهد وأهل حرب، وأهل العهد إما أن يكونوا عقدوا مع المسلمين عقد جزية أو أمان أو هدنة، وطالما أنّ السياح لا يملكون عقداً من هذه العقود الثلاثة كما يعتقدون؛ فهم إذاً أهل حرب، وبالتالي دماؤهم وأموالهم مباحة، ويرفضون الاعتراف بالتأشيرة التي تُمنح لهم؛ باعتبارها عقد أمان منح للأجانب، لأنّ الذي أعطاهم هذا العقد؛ أي الحاكم، لا يحكم بما أنزل الله.

لقد استند مرتكبو هذه العمليات على مقدمات باطلة، ولّدت بالضرورة نتائج باطلة، تتلخص في أمرين: الأول؛ أنّ هؤلاء الأجانب، سواء كانوا خبراء أو سياحاً أو فنيين محاربين دخلوا دار الإسلام، أو دار الحرب، والأصل استباحة دمائهم، والثاني؛ أنّ الأجانب السياح لا يجوز معهم عقد الأمان؛ لأنّ أركان الأمان الشرعي غير قائمة؛ لأنهم لم يطلبوا أماناً من أحد، ولم يعطهم أحد أماناً بالصورة الشرعية، وعقد الحكومة معهم مختلف تماماً عن العقد الشرعي، ومن ثم فهم غير مستأمنين، ويجوز قتلهم بنظر هؤلاء الإرهابيين.

والواقع أنّ كل هذا الكلام مردود شرعاً؛ فعقد الأمان معقود للأجنبي بمجرد دخوله بلاد المسلمين بأحكام الأمان التي يتضمنها منح التأشيرة حكماً، سواء في حرم الجهة التي قدمتها، أو حدودها، ووصف الجهة التي تصدر التأشيرة أنها غير شرعية، مردود أيضاً؛ لأنّ أمان آحاد الرعية للأجنبي جائز، حتى أنّ الفقهاء قالوا: "إذا صدر الأمان ممن لا يجوز، واعتقد المستأمَن أنه أخذ أماناً، وجب تنفيذه"؛ فالعبرة بانعقاد الأمان بما يريده مانح الأمان، وما فهمه طالب الأمان؛ لذلك قال عمر: "إذا حاصرتم قصراً فلا تقولوا انزلوا على حكم الله، فإنكم لا تدرون ما حكم الله، ولكن أنزلوهم على حكمهم، ثم اقضوا فيهم، وإذا لقي الرجل الرجل فقال لا تخف فقد أمّنه".

برزت ظاهرة استهداف السياح مطلع التسعينيات بهدف الضغط على الحكومات وإثارة الفوضى والتأثير على الاقتصاد

والمفارقة أنّ التنظيمات التي تستهدف السياح لا تجوّز الاستعانة بالأجانب وتكفّر المسلمين على ذلك، إلا أنّ أعضاءها يأكلون من طعام من يكفّرون، ويلبسون ما يصنعون، ويستخدمون الأجهزة التي يخترعونها وحتى أدوات القتل التي يلجأون إليها، استناداً إلى منطقهم النصوصي الانتقائي الذي يحلّلون به لأنفسهم ما يحرّمونه على غيرهم، بأنّالشريعة أباحت الاستعانة بالكفار وغيرهم لتحقيق مصالحها المشروعة، كما فعل الرسول، صلى الله عليه وسلّم، عندما استعان بعبد الله بن أريقط الليثي؛ لمساعدته وأبا بكر أثناء الهجرة إلى المدينة، رغم أنّه على دين قريش.

كما ترى هذه التنظيمات أنّ كلّ الأجانب والسياح الذين يترددون على البلاد الإسلامية محاربون للإسلام في تعميم عجيب، متجاهلين أنّ منهم النساء، والأطفال، والأبرياء... ، فضلاً عن أن يكونوا أصلاً محاربين للإسلام!

يقول عصام دربالة، أمير الجماعة الإسلامية السابق، في أحد كتب مراجعاته الفكرية: إنّ استدلال من يستهدفون السيّاح على اعتبار أنّهم محاربون للدين خاطئة؛ لأنّها تتعلق بتنزيل حكم الأمان بطريقة غير صحيحة، فالتعميم خاطئ، كما أنّ من بين هؤلاء الأجانب من هو معصوم الدم، ولأنّ الله تعالى يقول: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ﴾، وإن المتأمل في أحوال دخول السياح اليوم؛ سيجد أنّ طريقة دخولهم تندرج غالباً في مفهوم الأمان، بمعناه الشرعي، مما يمنع استهدافهم؛ لأّنّ عقد الأمان موجود عبر تأشيرة الدخول، التي تقوم مقام العقد، فلا شكّ حينما يحصل أحد على تأشيرة في أنّه يعدّ نفسه آمناً على نفسه وأهله وماله.

الغريب؛ أنّ هذه التنظيمات ترى أنّ التحذير الذي تصدره في بياناتها، مسوّغ لقتل السياح حال قدومهم، رغم أنّه يمكن ألا يصلهم هذا التحذير، أو يظنّوا أنّ الحكومة قادرة على حمايتهم، فضلاً عن بطلان كل هذه التحذيرات لعدم جواز نقض الأمانبأيّ شرط من الشروط، كما أنّها صادرة ممن لا يحق له شرعاً إصدارها.

ومن أشدّ الجرائم التي ترتكبها هذه الجماعات المتطرفة؛ قتل المدنيين مع الأجانب، وفق ما اعترف به سيد إمام الشريف، منظّر الجهاديين، وصاحب كتاب "العمدة في إعداد العدة"، في مراجعاته، من أنّهم كانوا يستهدفون المدنيين، "وهو نوع من الإقرار بالعجز عن مواجهة العسكريين من الأعداء، كما أنّه إقرار بالعجز عن الوصول للأهداف العسكرية، وكلاهما إقرار بالجبن، وقد ألجأهم الجبن والعجز إلى قتل من وردت الشريعة بالنهي عن قتلهم؛ وهم المدنيون غير المقاتلين من الأعداء؛ بل ومن المسلمين أيضاً.

المفارقة أنّ التنظيمات تستند إلى منطق نصوصي انتقائي تحلّل به لأنفسها ما تحرّمه على غيرها

ويتناسى من يرتكبون مثل هذه الأفعال الآيات التي نزلت رداً على التسرع في قتل رجل واحد مقاتل من الكفار، والتي أمَر فيه سبحانه بالتبيّن مرتين، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾، إلى قوله: ﴿كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا﴾[النساء: (94)]، وفي هذه الحادثة نفسها؛ اشتدّ إنكار النبي، صلّى الله عليه وسلّم، على أسامة بن زيد ما فعل.

لكن الإرهابيين اليوم يقتلون مرة بدعوى الجنسية، ومرة بسبب دفعهم الضرائب، ومرة بدعوى التترس، ومرة بدعوى إطلاق المعاملة بالمثل، ومرة بدعوى الشخصية الاعتبارية، رغم أنّ أغلب الدول الآن قد دخلت مع بعضها في عهود صلح وهدنات، وقد تعارف الناس على ذلك بوجود التمثيل الدبلوماسي، بل مجرد الانتساب إلى هيئة الأمم المتحدة يعني الدخول في عهد وصلح وهدنة مع كلّ الدول الأعضاء، كما ينصّ على ذلك نظامها الداخلي.

ويظل استهداف السياح الأجانب، كما المدنيين، قضية شائكة، ما تلبث أن تطرحها العمليات الإرهابية المتجددة دائماً، ومن الواضح أنّ مرتكبيها لا يستمعون إلا إلى صوت أنفسهم ومن سوّل لهم هذا الإجرام بعقلية انتقائية تتجاهل كل النصوصالتأسيسية التي أقرها الإسلام الذي يزعمون تمثيله وهو منهم براء.