ماهر فرغلي يكتب:
«شغور الزمان» ومنازعة السلطان
قفز فجأة إلى بؤرة اهتمام بعض الدعاة، كما أدبيات التنظيمات الإسلاموية ما يُسمى (شغور الزمان)، ويقصدون المعنى اللغوي نفسه (شَغَرَ الْمَكَانُ: خَلاَ ، فَرَغَ) أي خلو الأمة من السلطان المسلم، وأيديولوجيًّا شغور الزمان عن إمام عام للمسلمين يتولى باسم الشرع.
عامة الناس يتحدثون عن شغور الزمان من البركة، ومن معنى المودة والرحمة، والتعارف والتواصل بين الناس، ومنهم من يحدثك عن شغور الزمان من (فاكهة زمان) ذات الطعم المميزة التي حلت محلها فاكهة التطبيع الأشبه بالفاكهة البلاستيكية، وأولياء أمور الطلاب يحدثونك عن معلم ذي نجدة وكفاية، وخبرة ودراية، مع رأفة وقناعة، لكن بعض المتصدرين للفتوى يتحدثون أن زماننا يخلو من إمام يحمي بيضة الدين، ويقيم العدل بين الناس، ويرفع راية الشريعة، وهذه القضية هي الأهم التي دعتهم إلى تكوين هذه الجماعات انطلاقًا من وجود سلطات مدنية غير شرعية.
المسألة قديمة متجددة
كان أول من طرح هذه المسألة تفصيليًّا هو الإمام الجويني في كتابه «غياث الأمم» ص 186، حين قال: فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطان فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن آرائهم، فيصير علماء البلاد ولاة العباد، وإذ لم يصادف الناس قوّامًا بأمورهم يلوذون إليه، فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد، فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن عمَّ الفساد البلاد والعباد، ولو خلا الزمان عن السلطان فحقٌّ على قُطّان كل بلدة وسكان كل قرية أن يُقدموا من ذوي الأحلام والنهى وذوي العقول والحجى مَن يلتزمون إشارته وأوامره، وينتهون عند مناهيه ومزاجره.
التقط الإخوان ومن تبعهم فيما بعد من الجماعات المسألة التي تحدث عنها الجويني، وقالوا عند غياب الإمام العادل يجب على الأمة أن تقدم أصحاب العقول والهيبة العدول للفصل بين الناس، والقيام على معالم الشريعة، بل زادوا على ذلك بجواز تكوين فصائل مقاتلة لإعلاء راية الجهاد ودفع الصائل وحفظ بيضة الدين، وفق قولهم، في بحث (القول القاطع فيمن امتنع عن الشرائع) بإشراف عمر عبدالرحمن، وفي فقه الخلاف ص102، وفي فضل الغني الحميد ص166، وفي الضوابط الشرعية لتحقيق الأخوة الإيمانية ص31، وفي تحصيل الزاد لتحقيق الجهاد ص81، ومجلة صوت الدعوة العدد الرابع.
تحدث الإخوان عن مسائل خطيرة عدّة أصبحت فيما بعد من أصول دعوتهم، وهي: انعدام الإمام الشرعي، لا بيعة للرجل من باب أولى، مشروعية قيام الجماعات والعمل الجماعي التنظيمي، فجاء في مجلة صوت الدعوة العدد (الرابع): المقصود بشغور الزمان عن الإمام هو عدم وجود الحكومة المسلمة التي تحمل المكانة على مقتضى الحكم الشرعي، وهذا الشغور يكون في صورتين؛ الأولى: انعدامه حسًّا، كما لو مات الإمام أو عزل بسبب يقتضيه، أو أسر وبقي الناس بعده أوزاعًا متفرقين، فالواجب في هذه الحالة على جماعة أهل الحل والعقد أن يبايعوا من يصلح للإمامة ثم تبايعه الأمة بعد ذلك.
أما الثانية فهي: الانعدام الشرعي كما لو ارتدّ الإمام عن الإسلام أو بدّل الشرائع وغيّر الأحكام، وهي الأخطر الآن، فقد حكموا على السلطات القائمة بالردة، واعتقدوا أن الحاكم الشرعي غير موجود، ومن ثم فإن هذا الشغور يجيز لهم تشكيل تنظيمات وجماعات، وتولية من يشاؤون دون اعتبار للأمة.
الخلط والخلل في مسألة الشغور
اقتطع المتطرفون كلام «أبوالمعالي الجويني» المتوفى (478هـ) في كتابه (غياث الأمم في التياث الظلم)، وأخرجوا كلامه عن المعنى المتبادر للذهن، وحمّلوا الكلام ما لا تحتمله لغة العرب؛ حيث إنَّ كلام الرجل يتنزل على الشغور الحسي، أي غياب الحاكم، إما لقتله وإما لأسره، فحين ذلك لا مانع أن يتولى ذووا الكفاية والدراية أمور العامة إلى حين تنصيب إمام جديد، بينما هم أنزلوه على الشغور الشرعي الذي لا يقصده أصلًا، فهو يرى ما يراه أهل العلم في هذا الزمان، وهو أن الأئمة الموجودين الآن في أكثر الدول الإسلامية أئمة شرعيون، وأنَّ هذا الزمان لم يخل عن الإمام؛ وذلك لأنه يرى أن من تولى الإمامة بأي صورة من الصور التي يثبتها أهل السنة فإمامته صحيحة، ومنها أنَّ من تغلب على الإمامة بالقوة والغلبة وكان معه الأنصار والأعوان والقوة والعتاد، وإن لم يكن مستجمعًا للصفات المطلوبة شرعًا في الإمام، فإمامته شرعية كما سبق نقله، فقال في (غياث الأمم ص152): إذا اشتمل- أي الزمان- على صالحين لمنصب الإمامة فالاختيار يقطع الشجار ويتضمن التعيُّن والانحصار، ولا حكم مع قيام الإمام إلا للمليك العلام، فإذا لم يتفق مستجمع للصفات المرعية، واستحال تعطيل الممالك والرعيَّة، وتوحد شخص بالاستعداد بالأنصار والاستظهار بعدد الاقتهار والاقتسار والاستيلاء على مردة الديار، وساعدته مواتاة الأقدار، وتطامنت له أقاصي الأقطار، وتكاملت أسباب الاقتدار، فما الذي يرخِّص له في الاستئخار عن النصرة والانتصار والممتثل أمر الملك القهار كيف انقلب الأمر واستدار؟ فالمعنى الذي يلزم الخلق طاعة الإمام، ويلزم الإمام القيام بمصالح الإسلام أنه أيسر مسلك في إمضاء الأحكام، وقطع النزاع، والإلزام هو بعينه يتحقق عند وجود مقتدر على القيام بمهمات الأنام مع شغور الزمان عن إمام.
أستاذ الفلسفة، الدكتور عماد عبدالرازق، يشير إلى حقيقة مهمة، وهي حدوث خلط بين البيعة الخاصة لأشخاص عاديين كما يحدث في بيعة أئمة الجماعات الجهادية، مثل الألقاب التي يخلعونها عليهم، مثل الأمير والسلطان وغيرهما، وهي مفاهيم خادعة واهية ولا علاقة لها بالإسلام، بل تخدم مصالح هذه الجماعات باسم الدين، وهي تستخدم كمبرر ومسوغ لتبرير أفعالهم، وخلع مسحة دينية عليها؛ حتى يستميلوا الناس، ويجب أن نوضح أن مصطلح السلطان المسلم وغيرها من المصطلحات في فكر هذه الجماعات مرتبط بالسيادة، فالسيادة والسلطان مقترنان.
أما الدكتور محمد الهاشمي، أستاذ الفلسفة بجامعة الرباط فيقول: ليس المشكل باعتقادي قط في بداوة اصطلاح شغور الزمان من السلطان، فأحيانًا يمكن أن نعبّر عن مفاهيم حداثية بلغة متقادمة، وهو ما نصادفه مثلًا في أدبيات الديمقراطيات المسيحية، لكن المشكل في الوجود خارج الزمن أصلًا حين نتشبث بشرعيات أصبحت لاغية في العالم الحديث، وذلك منذ خروج الغرب من نير الملكيات المطلقة إبان القرن الثامن عشر.
وأضاف الهاشمي، أنهم ينتهون بشخصنة السلطة في اسم بعينه، عوض بناء الشرعية على أساس إرادة عامة تبني المؤسسات أولًا، وحيث يأخذ الأشخاص صورة تمثيلية فقط، فما ينتظره الجهادي يفتقد لأي مكان شاغر ليحتويه في العالم الحديث.. وأن السلطان ذا التاج والصولجان أصبح مجرد إرث أركيولوجي.. والمشكل إذن ليس هو الشغور، بل الشرود عن بنية العالم الحقيقية، نحو عوالم خلفية يعيش فيها الجهادي هلوساته القيامية داخل الكهوف أو الخرائب البعيدة، ولعل هذا ما يجعل الجهادي لا يصل مدن الناس إلا ويفكر في تفجير نفسه، وتبديد ذاته، ربما لأنه يدرك بشكل أو بآخر أنه لا يملك مكانًا في هذا العالم، وأنه ينتظر ما لا يأتي رغم الوعد والوعيد.
إن جماعات التكفير – أو من تفرع عنهم – وإطلاقهم شغور الزمان من الحكام، مستدلين بقول واحد للجويني نقضه هو نفسه في آخر كتابه، هو مبني على وجهة نظرهم الفاسدة، التي تبحث دائمًا عن تنظيرات في بطون الكتب لتمرير أعمالهم الباطلة.