علي الصراف يكتب:

قنبلة الإخوان وإخوانهم

إذا كان مشروع تمزيق وتفتيت بلدان العالم العربي يمتد إلى نحو 40 عاما إلى الوراء. وإذا كانت استراتيجية “الفوضى الخلاقة” قد استندت إلى الأسس نفسها لتحطيم الدول القائمة لصالح مشاريع طائفية وعرقية ومذهبية، وإذا كان مشروع “الشرق الأوسط الجديد” قد وضع خرائط التمزيق وحدد البرامج التنفيذية لها، فالسؤال الصارخ هو: من هي القوة التي كان يمكنها أن تلعب دور “حصان طروادة” لتنفيذ هذا المشروع؟

من هي القوة التي كان يمكنها أن تنبت من بين أيدينا لتؤدي دور التخريب والتمزيق على أساس طائفي أو مذهبي؟

أنظر إلى “السرديات” الأيديولوجية التي كانت سائدة في المنطقة لتعرف من هم. ستعرف على سبيل المثال أن القوميين بصنفيهم، البعثي والناصري، حتى وإن أخطأوا السبل في الطريق إلى بناء الوحدة العربية الكبرى، إلا أن مناهجهم الفكرية، كانت تأنف على الدوام حتى من مجرد الاعتراف بالتمايزات الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو العرقية بين الناس.

جانب منهم اتخذ من البيسماركية سبيلا لتحقيق الوحدة العربية. وجانب آخر اتخذ من الشمولية أساسا لبناء “دولة قوية” تقصد أن تصبح مركز ثقل وأداة جذب، إلا أنهم لم يقبلوا الاعتراف بأي انقسامات داخلية، حتى أنهم رفضوا الاعتراف بوجودها أصلا. وظلت صفة “العربي” هي أساس التعريف الأيديولوجي حتى للمواطنة المحلية نفسها. فأن تكون مصريا، يعني أنك عربي بالدرجة الأولى، وأن تكون سوريا أو عراقيا أو جزائريا، يعني أنك عربي أيضا.

فهل هم الاشتراكيون والشيوعيون؟ لا فهؤلاء الذين يتطلعون إلى “وحدة الطبقة العاملة العالمية”، ظلوا يتصرفون بمقدار ملحوظ كوطنيين، ولو بسذاجة تستند إلى قوالب فكرية جاهزة. وانطوت مناهجهم على انشغالات ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية شاملة، وسلطة ذات طبيعة شمولية مماثلة لسلطة القوميين. وظلوا يرفضون التمايزات بين الناس. ذلك أن التقسيمات الطبقية للمجتمع كانت هي الأساس الذي تركن إليه سياسات النظر إلى الكتلة الاجتماعية.

كل التيارات السياسية الكبرى الأخرى، نحت المنحى الوطني، الشمولي نفسه. نجحت أو لم تنجح في بناء دولة وطنية على أسس راسخة، فهذه قضية أخرى، تعلقت بفقر منهجي ومعرفي لا بفقر في الوطنية، إلا أنها اتخذت لنفسها على الدوام، منحى ذا طبيعة اجتماعية وسياسية جامعة. إذن أين؟

وحده ما يسمى بـ“الإسلام السياسي”، وخاصة “تنظيم الإخوان”، كان الأداة التي يمكنها أن تلعب دور التمزيق والتفتيت الاجتماعي. من ناحية، لأنه كان من الأساس مشروعا يقف ضد كل المشاريع ذات الطبيعة الوطنية والقومية. وهو نشأ وتم دعمه في الأصل ليحاربها.

ومن ناحية أخرى، لأنه باستخدامه للدين، جعل من التمايزات المذهبية والطائفية قضية تهيمن على النقاش العام في المجتمع، فتباعد بين أطرافه وترسم حدودا داخلية لكل مجموعة مذهبية، أو حتى فكرية (داخل مشروعه الإسلامي). وهذه الحدود نشأت كـ”حدود دم” لأنها حدود نبذ وشيطنة وتكفير.

الإسلام السياسي كان هو المستنقع الأول الذي كان بوسعه أن يحقق لعوديد ينون “استراتيجية إسرائيل في الثمانينات”، وهو “القوة” الداخلية الوحيدة التي كان بوسعها أن تعيد المجتمعات العربية إلى “طبيعتها الهمجية” (حسب برنارد لويس) ما قبل نشوء الدولة الوطنية، كطوائف ومذاهب ومجموعات سكانية متصارعة. فتحقق لأقذر الخطط الاستعمارية غايتها بجعل “الفوضى الخلاقة” أداة لتدمير كل شيء حرصنا على بنائه، ولو تعثر ببعضنا الطريق.

وهو “القوة” الوحيدة التي يمكنها أن ترفع “حدود الدم” (حسب رالف بيترز) إلى مصاف “شرعي” ومقدس، بينما هي تمارس أشنع الجرائم، و“على عماها” خاصة، لكي تنطلق منها دوافع الانتقام والثأر والتكفير المتبادل، فتضع خارطة “الشرق الأوسط الجديد” موضع التنفيذ.

لقد دافعتُ، على طول الخط، عن الفكرة القائلة إن “مشروع الإسلام السياسي” (كله على بعضه وبكل صوره) هو بالأحرى مشروع لتفجير قنبلة نووية في مجتمعاتنا. ولكنه أسوأ من ذلك أيضا. فقنبلتا هيروشيما وناكازاكي أدتا بالكاد إلى مقتل نحو ربع مليون إنسان. وفي المقابل، أدتا إلى توحيد المجتمع الياباني لكي يعيد بناء نفسه.

أما قنبلة الإخوان المسلمين وإخوانهم (حزب الله، الحرس الثوري، داعش، وغيرها)، فقد قتلت الملايين وشردت الملايين ودمرت عدة دول، وحولت الوحشية والإرهاب والفساد إلى صفة تلحق بالإسلام نفسه.

هؤلاء هم “حصان طروادة” الحديث. وهم القنبلة التي ما أن انفجرت هنا وهناك وهنالك حتى حولت المجتمع إلى خرق ممزقة، ينحر بعضها بعضا، ويكفر أحدها الآخر، ويجيز لنفسه أن يرتكب فيه كل الفظائع. هل فعلت قنبلة هيروشيما في اليابان ما فعلت قنبلة الإخوان وإخوانهم في العراق وسوريا واليمن ومصر وليبيا وتونس، في آن واحد؟ إذا لم تصدق، فتعال نحسب!

لهذا السبب لا تريد دوائر التمزيق (المخابراتية و“البحثية”) في الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما، النظر إلى هذه التنظيمات كتنظيمات إرهابية. ذلك لأن لها دورا ما يزال بوسعها أن تؤديه. لا تنسى أن الدعم الذي قدمته شركة “قناة السويس” عام 1928 لبناء تنظيم الإخوان المسلمين لمواجهة الحركة التحررية المصرية بقيادة سعد زغلول، جعل هذا التنظيم وبريطانيا،”أولاد عم” منذ ذلك الوقت. من هناك بدأ الزرع. وها هي ثماره تطرح جثثا كل يوم.