سهى الجندي تكتب:

الشعوب تستطيع

جلبت ثورة الإعلام الرقمي إمكانات هائلة لتفاعل الشعوب مباشرة. وقد ظهرت نتائجها بشكل فوري وجلي في حراك الشارع العربي، وأهم حراك لغاية اليوم هو الذي يحدث في لبنان والعراق المخترقين من إيران، حيث يعاني الشعبان من الفقر وأدلجة للفكر ومن واقع مزر ومليء بالكراهية والاحتراب الداخلي.

الأجيال الناشئة أصبحت في صميم الثورة الرقمية والشباب يتبادلون وجهات النظر ويريدون أن يعيشوا في مستوى لائق بالإنسان، بعد أن كانت تقف بوجههم قوى ظلامية تسعى لغسل أدمغتهم بخرافات تنفث الكراهية في كل مكان، وتنشر أفكارا من الصعب على الفتية أن يقبلوها.

لكن تلك القوى تجاهلت أن لكل جيل مناخه الفكري والثقافي، وليس من السهل قمع هذا الجيل وتدجينه كما كان الأمر في الماضي، حين كنا لا نرى ولا نسمع إلا ما يقوله “ولاة الأمر” في البيت وفي المؤسسات.

لقد مهدت الثورة الرقمية للتغيير الثقافي ونشرت كل ألوان الطيف الفكري، من الأديان إلى حقوق الإنسان إلى الإباحية، فأدرك الشباب أن هذا العالم مليء بالتنوع المادي والفكري. فكيف يتوقع رجال السياسة أن بإمكانهم مصادرة الفكر والقناعات؟

هذا الجيل تهب عليه الأفكار من كل صوب، وليس من السهل إقناعه بأن يرتدي العمائم ويطلق اللحى ويدين بالولاء لهذا أو ذاك، فالزمان لا يرجع للخلف، ولكنه يسير قدما وينتقل من تطور لآخر، وكل تطور يجلب معه نمطا جديدا من الحياة المادية والفكرية.

لقد تمكنت إيران من السيطرة على بعض الفئات في لبنان والعراق لمدة عقود، وفرقت الناس ونشرت الكراهية بينهم، لكنها لم تنتبه إلى قنوات التواصل التي نشرت قيما جديدة وهي الانفتاح وحرية الرأي والتواصل الحر وتدفق المعلومات.

بات الشاب يعرف ويقارن ويكون قناعاته بنفسه، ولم تعد الحياة بالنسبة له دينا أو طائفة أو مذهبا أو عرقا أو لونا، فهو يقضي معظم وقته وهو متصل مع العالم المفتوح. فكيف له أن يقتنع بأن أمرا معينا هو الصحيح وما سواه خطأ يستوجب العقاب؟

كيف له أن يقتنع أن ما يراه في عالم الاتصال، آثام وخروج عن طاعة الله وهو يرى أن الناس يعيشون ويستمتعون بحياتهم ويحصلون على حاجاتهم الأساسية والكمالية، ثم ينظر إلى واقعه المليء بالسموم والتفكير الغيبي والتحريض على القتل ونشر الكراهية، فيدرك هذا الشاب أنه مغرر به ومستغفل، فيعود إلى تفكيره الفطري السليم.

اليوم، يرفض الشباب تقسيم الناس في فئات متناحرة، فجميعهم يعانون من الفقر وجميعهم يعيشون في وطن واحد، يجب أن يكون للجميع. وجميعهم يريدون الانضمام إلى العالم المتحضر الذي يشاهدونه في شبكات التواصل، والذي لا يتحدث بالأديان بل بالرفاهية والتقدم والإنجاز وتوفر الفرص.

وجد هؤلاء الشبان أن الحديث عن الأديان في العالم المتحضر أمر سخيف، بل أن علماء الآثار يقولون إنهم وجدوا أدلة على أن قصص الكتب المقدسة منقولة حرفيا عن الأدب السومري والبابلي وهم يمتلكون الألواح المنقوشة عليها تلك القصص، بل تجاوزوا مناقشة الأديان إلى مناقشة الخالق هل هو موجود أم لا. والشباب العربي مطلع على ذلك كله، ولا يريد أن يعود إلى اللغو وحشو الكلام في أمور لا يمكن التوصل فيها إلى نتيجة موثوقة تماما ويهدر الدماء من أجلها.

اليوم نرى كم تغيرت الحياة عما ألفناه من قبل، فالشباب في بؤرة التغيير الثقافي، وتعصف بهم الأفكار من كل حدب وصوب، وأدركوا أنهم أضاعوا الكثير في الانقسام والتناحر وهم في الأصل لا فرق بينهم. لم يعودوا يريدون إيران ولا الخوض في مسائل دينية أفقرتهم ودمرتهم، بل يريدون الرجوع إلى العمق العربي وحالة من الوئام والسلام وحرية الحركة والعمل في أي دولة عربية.

أدرك الشباب أن دول الخليج لديها فرص كثيرة ولديها مال كثير، ولكنهم يلحقون بها ضررا جسيما عندما ينضمون إلى إيران المعادية لهم ويتحالفون معها، فيجبرونها على الإنفاق الجنوني في التصدي لإيران، فيزداد الحال سوءا ويتفاقم الفقر.

لطالما كانت دول الخليج فاتحة أبوابها لكل العرب، وحري بهم كسبها والوقوف معها ضد من يعاديها. فليس هناك عاقل يقتل أخاه ويخسر سنده في الحياة، وهي خير سند. دول الخليج تعطي بسخاء وتتوسط لإصلاح ذات البين وتستقدم الشباب للعمل والعيش فيها، لا فرق لديها بين سني وشيعي ومسيحي، والعاقل هو من يحافظ عليها ولا يتحالف مع أعدائها ويطعنها في ظهرها.

أما قصة المقاومة ضد إسرائيل، فمتى كانت دول الخليج عائقا؟ لم يسبق لأي دولة خليجية أن تعاونت مع إسرائيل ضد العرب، ولكن لا يتوقع أحد منها أن تحمل السلاح وتحارب إسرائيل بدلا من الفلسطينيين والأردنيين والسوريين والمصريين واللبنانيين، أي دول الجوار لإسرائيل، فهذه مهمتهم.

على الشباب أن يقيموا علاقات الأخوة مع دول الخليج بعيدا عن الطائفية والمذهبية لأنها تساعد على بناء دولهم وإخراجهم من الأزمات. فإذا تفرقوا، انتشرت الخرافات والممارسات المتخلفة والقتل باسم الدين وضاعت أموال العرب على غيرهم وطمع الغريب بهم وابتزهم ولعب بهم ذات اليمين وذات الشمال.