فاروق يوسف يكتب:

باريس ليست باريس في غياب عشاقها الخائفين

في القطار الذاهب إلى باريس من لندن كانت المفاجأة شاخصة مثل شبح. كان علي أن أتصالح مع فكرة أن تكون عربة القطار التي سأستقلها ليست مليئة بالركاب كالعادة. ذلك ما حدث فعلا. أربعة مقاعد متقابلة كانت لي وحدي. ذلك تمهيد ليس حسنا لزيارة قصيرة، خططت من خلالها أن أقيم في قلب باريس. سان جيرمان دي باري. قلت لنفسي “هناك لن يتغير شيء”. حفلات الروائي الأميركي إرنست همنغواي ستكون مناسبة للسخرية من كورونا الصينية. فكرت بكتابه “عيد متنقل” الذي استفاد منه المخرج وودي آلن في إنجاز رائعته “منتصف الليل في باريس”. تذكرت أن هنري ميلر وهو روائي أميركي أيضا كان يحب الصينيين في باريس أكثر من حبه لسكان مدينته نيويورك.

أقنعت نفسي بأن باريس ستكون أقوى من مرض عابر. لن يخيفها هذه المرة طاعون ابنها ألبير كامي. لقد خُيل إلي حينها أن صاموئيل بيكيت الذي جعل العالم كله يقف في انتظار غودو سيكون في انتظاري في محطة الشمال حاملا باقة زهور وسيحضنني باعتباري بطلا عبر المانش من غير كمامة في رحلة تحدّ لفكرة المرض. فالمرض فكرته قبل أن يكون أمرا مؤكدا من خلال عوارضه.

 كان القطار هذه المرة مختلفا عن المرات السابقة. باريس ليست بعيدة، لكن السفر إليها صار موحشا. في الأحوال العادية كنت أحاط بالحشود التي تجر حقائبها فإذا بي هذه المرة أجر حقيبتي وحيدا. لا أتعب نفسي في البحث عن مقعدي. هناك العشرات من المقاعد فارغة.

 لقد قرر المسافرون أن يبقوا في بيوتهم خشية أن تكون باريس طريقهم إلى الموت. كم تتبدل البشرية بسبب الخوف. فباريس الذي يتمنى كل إنسان أن يلتقط صورة على أحد جسورها أو في باحة كاتدرائيتها الشهيرة أو قرب برجها الحديدي أو أمام هرمها الزجاجي صارت بالنسبة للبعض سببا للخوف من الموت. كم تتغير المدن حين يضرب التحول مشاعر البشر.

مَن لا يحب باريس؟ لكن شيئا من سحر باريس يختفي حين يشعر المرء بوحدتها فيكون وحيدا كما لم يكن من قبل

حدث يُذكر بمسرح اللامعقول الذي ابتكرته باريس.

مَن لا يُحب باريس؟ تلك مدينة يقع سحرها في كل متر منها. الذهاب إليها فيه الكثير من الخيال الذي يفرض سلطته على الواقع فيكون ما يُرى مرآة لما لا يُرى. في “أوديون” كان نصب دانتون ينتظرني. “أنا في قلب الصيحة” قلت لنفسي وأنا أعرف أن مقهى فلور، حيث كان فيلسوف الوجودية بول جان سارتر يجلس ويكتب، قريب، وأن أقدام الشعراء والرسامين الهائمين في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي لا يزال وقعها يملأ المكان. من هنا مرت الدادائية والسريالية والتكعيبية والوجودية لتغزو العالم وتغير سبل النظر والتفكير والحلم. ولكن شيئا ما يجعلني أشعر بالقلق. إنه الصمت.

ليس صمت حجر كنيسة راعي المكان القديس جيرمان ولكنه الصمت البشري الذي لم يألفه المكان. المقاهي والمطاعم شبه فارغة. في زياراتي السابقة كنت أنتظر طويلا لكي أحظى بكرسي ومنضدة وقليل من الوقت لشرب فنجان من القهوة. كان هناك الكثيرون ينتظرون مثلي. صار ذلك شيئا من الماضي. ما عليك سوى أن تختار موقع الجلوس الذي يناسبك وتجلس متأملا ما اتسع له وقتك. فليس هناك من زحام. لم يحضر أحد. النادل يملك متسعا من الوقت لكي يلتقط لك صورا عديدة. في الماضي كنتُ أنتظر طويلا لكي يلتفت إليّ النادل.

مَن لا يحب باريس؟ ولكن شيئا من سحر باريس يختفي حين يشعر المرء بوحدتها فيكون وحيدا كما لم يكن من قبل. باريس ليست حجرا كريما. يقع معناها في لهفة الآخرين إليها ورغبتهم في التسلل إلى خيالها. وهو الحدث الذي سقط سهوا بسبب الخوف من ذلك المرض الغامض. كما لو كانت مدينة النور تدفع ثمنا لذنب لم ترتكبه، كان كل شيء فيها يمعن في تواريه لكي لا يكسر إحباطه الناظرين إليه. مدينة تحرص على جمالها الذي يكمن جزء منه في طريقة النظر إليها.

لقد مجدت الفنون باريس كما لم تفعل مع مدينة أخرى. وهي مدينة الكتب. في كل زاوية وزقاق هناك مكتبة. مكتبات ومخابز. هذه هي باريس التي تنتج يوميا الآلاف من الصور والأفكار التي تغير الذائقتين العقلية واللسانية. باريس حية لأنها تعمل في الخفاء على ما يتباهى به الآخرون علنا متخذين منه سمة لحياتهم. أليست الأناقة في عزها باريسية؟

لا متاحف. باريس من غير متاحف فيما اللوفر يحتل مساحة هائلة على نهر السين. لا مسارح. لا قاعات عرض. لا ندوات ولا أمسيات شعرية ولا لقاءات فوضوية. لا يحتاج المرء إلى الذهاب إلى البانثيون حيث مقبرة العظماء لكي يختلي بنفسه. باريس كلها صارت امتدادا لصمت ذلك الصرح الهائل. فالعدو اللامرئي يقيم في كل مكان. تلمس حجرا أو زهرة أو سياجا أو منضدة أو كتابا أو عمودا فتخشى أن يكون الفايروس قد انتقل إلى يديك. رأيت في إحدى مكتبات “سانت ميشيل” كتاب “الأمير الصغير” لأنطوان دي سانت أكزوبيري بنسخ عديدة. كل نسخة بلغة.

لقد تُرجم ذلك الكتاب إلى معظم لغات العالم. ولأنني أحبه. أحب الكتاب وليس حكايته وحدها فقد كنت مولعا في تقليب صفحاته كلما زرت باريس. هذه المرة وقفت أمامه بلوعة كما لو أنني سأرتكب إثما في حق نفسي لو أنني مددت يدي إليه. قد يكون الفايروس راقدا بين سطرين في صفحة ما من صفحاته.

لقد تبدلت علاقتنا بالأشياء فلم يعد الحب مقياسا صالحا للحكم.

باريس التي أحبها هي مدينة أخرى. صحيح أنها كانت دائما تحرص على هويتها الفرنسية غير أنها هذه المرة فرنسية أكثر مما يجب. في الليل تمتلئ حانات ومطاعم الأزقة الصغيرة في سانت جيرمان بالزبائن غير أنهم جميعا كانوا فرنسيين. ما من عشاق غرباء. ما من تائهين ألهمتهم عينا ألزا شعر أراغون. لقد انتصر كورونا على المتمردين كلهم. كانت هناك سوق للشعر وقد ألغيت.

في الباحة الخارجية لمركز جورج بومبيدو المغلق هناك إشارة صغيرة إلى أن هناك معرضا شخصيا في جانب مهمل منه. حين ذهبت إلى بوابة ذلك الجانب لم أجد أحدا. كان المعرض مهجورا. لقد ضُربت البشرية في صميم خيالها.

قلت لنفسي “هي فرصة لأرى باريس كما لم أرها من قبل. باريس كما هي”. تلك فكرة خاطئة. فالمدينة ليست شوارعها ولا مخازنها التجارية ولا ضفاف نهرها ولا جسورها ولا مقاهيها ولكنها وقع أقدام من مشوا في تلك الشوارع. ذلك ما تلمسه في ماريه، أحد أكثر أحياء المدينة عراقة.

في ماريه هناك متحف بيكاسو ولكن هناك أيضا أكثر مطاعم الفلافل شهرة بباريس. عادة يكون هناك طابور طويل في انتظار الوصول إلى البائع. هذه المرة لم يكن هناك أحد. فكرت أن هناك خطأ في مكان ما. ولكنه المطعم نفسه. صار عليّ أن ألغي نصف ساعة الانتظار لكي أكون وحيدا ويُلبى طلبي بسرعة.

وبالرغم من ذلك فقد كنت أنظر إلى أثر الطابور باعتباره أثرا من باريس التي أحب. في ذلك الحي الصغير والمكتظ في الوقت نفسه بمخازن أرقى دور الأزياء الفرنسية يشعر المرء بعبث أن تظل تلك المخازن مفتوحة. فالأزقة الصغيرة تصفر فيها الريح والفرنسيون العابرون ليسوا زبائن بالتأكيد. 

تلك استعارة تجارية ولكنها تحيل إلى الحب. ذلك لأن حياة جانبية عابرة كانت تهب الأزقة الصغيرة معنى مختلفا. عشاق باريس هم مرضى سحرها. لذلك فإنهم حين يختفون فإن جزءا عظيما من ذلك السحر يختفي معهم. باريس في عصر كورونا ليست باريس. هي مدينة أخرى. لا يزال كل شيء في مكانه وبالأخص نهرها العظيم السين. ولكنها كما فنها من غير المعجبين بها لا تصل إلى خيال صورتها. يكفي أن مكتبة شكسبير الشهيرة كانت خالية من الزبائن ليشعر المرء أن باريس لم تعد باريس.