محمد أبوالفضل يكتب:
الفصائل المسلحة.. دولة واحدة وجيوش عدّة
إحدى أهم مشكلات المفاوضات الجارية بين السلطة الانتقالية السودانية والحركات المسلحة، تتعلق بالترتيبات الأمنية في مناطق الصراعات وكيفية استيعاب القوات التي انخرطت فيها ضمن أطر المؤسسة العسكرية النظامية، الأمر الذي أعاق التوصل إلى تفاهمات مبكرا بين الجانبين، وجعل مطلب السلام الشامل بعيدا.
فتح الاتفاق بين الخرطوم والحركة الشعبية، جناح مالك عقار، على ضم قواته إلى الجيش السوداني، الأحد، الباب بشأن أسئلة حرجة حول مدى نجاعة الخطوة وتأثيرها على الهدوء والاستقرار، وهل يمكن أن تمثل هذه العناصر رافدا رئيسيا للأمن، وإيجاد صيغة تفاهم بين القوات النظامية، وتلك التي اعتادت على حروب العصابات؟
يحمل السودان خصوصية مختلفة عن دول كثيرة، وتمثل الفصائل المسلحة محركا مهما للأحداث، فكل جناح سياسي له ذراع عسكرية، وهي متعددة ومنتشرة في مختلف أنحاء البلاد، وفرضتها طبيعة التطورات خلال العقود الماضية، وأصبحت قاسما مشتركا في الحوارات والمناقشات بين الحكومة المركزية والأطراف.
كما أن نظام الرئيس السابق عمر البشير، قام بتشكيل أجنحة موازية للأفرع العسكرية التقليدية، واخترع هياكل تحت مسميات عدة لحمايته، بعيدة عن الجيش، ثم أوجد لها صيغة تكاملية، ورغم حساسيتها حتى الآن، غير أنها تبدو قابلة بالتعايش، وتحاول القيادات الرفيعة تحاشي المشكلات وعدم تعكير صفو استكمال المرحلة الانتقالية.
قد يكون هذا الملف أقسى وأصعب في حالة هضم عدد كبير من الحركات التي قاتلت سنوات طويلة، لكن في النهاية من الواجب التوافق حول مخرج مناسب، إما بالاستيعاب أو التسريح أو التعويض، ولأن غالبية الحركات المسلحة تريد الأولى (الاستيعاب) باتت المسألة في غاية الحساسية.
دخلت دولة جنوب السودان هذا النفق من أوسع أبوابه، فعندما حصلت على الاستقلال منذ حوالي عشرة أعوام، احتل التفكير في توحيد المؤسسة العسكرية جانبا مهما من الجدل، خاصة أن الحركة الشعبية وجناحها المسلح، النواة الحقيقية للجيش، تفرقت بها السبل بعد الاستقلال، حيث تصارع عدد كبير من القيادات حول المناصب.
بدت هذه الإشكالية ضئيلة، مقارنة بالخلافات الحادة بين الفصائل المسلحة الموازية، والتي تريد أن تأخذ نصيبها من السلطة والثروة، تعويضا عن كفاحها المسلح حتى تقرير المصير ثم الانفصال، ولا يزال هناك جيش نظامي يتبع رئيس الدولة سيلفا كير ميارديت، وجيوش أخرى تتبع قيادات مناوئة له، وتسيطر على أماكن حيوية في البلاد، وتتقاتل معا من وقت لآخر.
لك أن تتخيل أن إحدى معضلات جنوب السودان وإخفاقه في تحقيق الأمن والاستقرار، هو أن الجيش التابع لرئيس الجمهورية يدخل في مناوشات مع القوات المسلحة التابعة لنائبه رياك مشار، وفشلت خطوات توحيدهما، ولم ينجح اتفاق السلام الموقع بينهما في وأد هذه الأزمة، ما جعل الدولة تعيش على بركان من البارود قابل للانفجار في أي لحظة، فهناك دولة واحدة وجيوش عدة.
يعد دمج الحركات المسلحة من التحديات المركزية في الدول التي تمر بحروب أهلية، بعضها ينجح في التوصل لطريقة مناسبة لتخطيها، وغالبيتها يخفق. والأدهى أن كثيرا من المعارك تستمر جراء صعوبة التسوية، وإصرار كل طرف على خطف مزايا معينة كتعويض عن فترات ما يسمى بالنضال أو الكفاح.
جرى تفهم هذه القضية في الدول التي قاتلت طويلا ضد الاستعمار، أو خاضت حروبا لأجل الاستقلال، ولم تكن الحلول مستعصية، حيث كانت هناك مساحة جيدة من التوافق، مع ذلك لم يخل الأمر من مشكلات، يتوقف حلها على وجود قيادة قادرة على جمع الشمل، والإعلاء من شأن الولاء الوطني على الفصائلي والمناطقي والإثني.
نجحت دول عديدة في تجاوز هذه العقبة وأخفقت أخرى، وتوجد دول تجاوزت حروب الاستقلال، لكن لا تزال ثمة حركات مسلحة وميليشيات مصرة على استمرار الاقتتال، والذي لا تعرف غيره، وتعتبره مصدرا للقوة والثروة والنفوذ، وعندما تسخّره في خدمة جهات خارجية تزداد المكاسب وتشتد المعارك بالوكالة.
أدى انفتاح التنظيمات المسلحة التي رفعت شعارات وطنية أو عقائدية، إلى رواج سوق المرتزقة، وتحول القتال من الدفاع عن مصالح محلية إلى تلبية أجندات إقليمية ودولية، ما أسهم في تصاعد حدة المعارك، وأضعف القدرة على تقبل هذا النوع من المقاتلين في الجيوش النظامية، لأنهم يخلّون بالتوازنات الأساسية.
مع ارتفاع معدل الارتزاق للمتاجرة وتحقيق أغراض سياسية وأمنية، تحوّل القتال إلى حرفة ضاعفت من المشكلة، فلا يُوجد جيش محترف يقبل أن يدرج ضمن عناصره عصابات مسلحة، أو ميليشيات تخدم أهدافا محددة، لأنها تشوه الفكرة التي تقوم عليها الجيوش، وهي الدفاع عن الوطن وليس الدفاع عن فصيلة أو منطقة أو جهة أو دولة لها مآرب سياسية واقتصادية وأمنية.
طفت هذه المفارقة مع حديث متواتر حول توحيد المؤسسة العسكرية في ليبيا، وتحاول بعض الدول إدراج الآلاف من المرتزقة والمتطرفين والإرهابيين الذين جلبتهم تركيا ضمن الجيش الليبي، بذريعة أنهم فصائل مسلحة تابعة لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس، وكل عملية توحيد يجب أن تشملهم، حتى لو كانت الميليشيات النواة الرئيسية للقوات التي تزعم الحكومة أنها تمثل جيشها.
تدور حوارات مكثفة في بعض الأروقة الإقليمية والدولية حول هذه القضية، وهناك صعوبة بالغة في تنفيذها، لأنها تلغي هوية الجيش الليبي، وتخضعه لعملية إحلال مخلة بواجباته الوطنية، وتخلق صراعات ممتدة، وتخدم مصالح تركيا التي تضمن أن مرتزقتها سيتحكمون في جزء معتبر من مفاصل المؤسسة العسكرية.
يمثل هذا الالتفاف حالة نادرة في الحروب الأهلية، ويمهد الطريق لإدراج المرتزقة في المؤسسات النظامية، ما يفسر زيادة المساعي التركية لجمعهم وتفريغهم في ليبيا، ولم تقتصر جهودها على القادمين من سوريا، ووسعت دورها ليشمل مرتزقة من الصومال وتشاد والنيجر، وجلهم من المتشددين، لضمان ولائهم لجماعة الإخوان في ليبيا، التي تحاول تكريس قدميها في السلطة والثروة بأي وسيلة ممكنة.
يقود ذلك إلى القبول قسرا بعدد من هؤلاء في المؤسسة العسكرية، ما يؤدي إلى تخريبها، أو تحولهم إلى منغص دائم عند احتفاظهم بأسلحتهم، كما أن فكرة نزعها صعبة على تركيا وتفقدها ورقة عملت كثيرا على الدفع بها وتضخيمها.
بالتالي من الضروري وضع تصورات حاسمة للتعامل مع هؤلاء، ففي النهاية هم قتلة مأجورون، وليسوا من النسيج الوطني للدولة، قبل أن يتحولوا إلى قنابل في دول متفرقة، فتعميم ظاهرة المرتزقة أخطر من الحركات المسلحة المعروفة، وتحمل ارتدادات مستقبلية تتجاوز حدود الدولة التي ينشطون فيها.