محمد أبوالفضل يكتب:
عبدالناصر المُختلف عليه مصريا وعربيا
يمر، الاثنين، نصف قرن بالتمام والكمال على رحيل الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر، ولا يزال محل اختلاف بين النخبة العربية، وتجربته موضع أخذ ورد كبيرين. كلما زادت الضغوط على المنطقة يتذكر كثيرون سلبياته وإيجابيه، وفاق الاهتمام به غيره من الساسة لحجم التباين الذي يعتري تقييم توجهاته وممارساته.
كنت شاهدا على حوار افتراضي جرى قبل أيام قليلة بين مثقفة جزائرية انتقدت بحدة تصرفات عبدالناصر، ورأت أن تأثيراته السلبية لم تنحصر داخل مصر، بل امتدت إلى بلدها، وقالت إن الرئيس هواري بوميدن اقتدى به في مسألة الإصلاح الزراعي، واعتبرتها عملية كارثية على بلدها، واتهمت ناصر صراحة بأنه أمر بقتل كل قادة الثورة الأمازيغ من أجل انتصار العروبة.
لم تعجب النتيجة التي ذهبت إليها الأكاديمية الجزائرية كاتبا مصريا مرموقا لا ينكر انحيازه لعبدالناصر، انبرى مدافعا عن تصوراته الزراعية والمجتمعية وتوجهاته السياسية، وعلاقته القوية بالثورة الجزائرية، واحترامه لكل الأطياف الوطنية.
احتدم النقاش بين الجانبين وبلغ حد استخدام توصيفات شوفينية، وكل طرف دافع بشدة عن موقفه ووجد من يؤيده في منطقه الشعبوي، وتلاشى صوت الحكمة في خضم التراشق الرنان بالعبارات، ولم يتبين كثيرون أوجه اختلاف أخذ بعدا يتجاوز أصل الحكاية، وتشعب بشكل مبتور إلى تقييم التجربة من خلال كلمات عابرة.
توقف الحوار عند نقطة لم يكسب فيها أي من الفريقين المباراة السياسية، وقبل أن تصل إلى محطتها النهائية وجه كل طرف انتقادات قاسية للآخر، ولم يبد كلاهما رغبة في الهدوء والرشاد والتصالح، فهو نقاش جرى وسوف يجري كثيرا بين النخب العربية، فكلما حضر اسم عبدالناصر احتدم الخلاف.
كشفت هذه الواقعة البسيطة جانبا مما يكتنف النخب العربية من رؤى متصادمة لعصر عبدالناصر. ففي الجزائر نفسها هناك من يرونه زعيما قوميا بامتياز وله شعبية حاضرة في الوجدان العام، ولعب دورا مهما في مقاومة القوى الاستعمارية، وفي مصر ثمة من يرونه “شيطانا” تسببت تصرفاته في نكسات على مستويات متعددة، أو “ملاكا” يريد العزة والكرامة والنصر لأمته.
رأيت نماذج مختلفة لهذه النوعية من النقاشات تتصاعد فيها التجاذبات لمستوى غير عقلاني، وهي صفة عربية تتوافر في حوارات كثيرة حول الزعماء السابقين، ويتم استحضارهم كدليل على بؤس الحاضر أكثر من التفاخر بالماضي، كما في العراق بالنسبة لصدام حسين، والعقيد معمر القذافي في ليبيا، والحبيب بورقيبة في تونس.
تتوقف نتيجة التقييم على طبيعة الموقف السياسي الذي يتبناه الشخص المدافع أو المهاجم، ويبدو الانقسام مثيرا في النقاشات التي تدور حول أداء عبدالناصر، ويأخذ اتجاها ساخنا، مع أن بعض الكتابات المنصفة رصدت تجربته بما لها وما عليها، في إطار الأجواء والتحديات التي كانت السائدة في حينه، فليس من المنطقي التقييم بناء على المستجدات الراهنة، وغير مقبول إعادة تكرار سياسات سابقة في الزمن الحالي.
أسهم من يسمون في مصر بـ”مجاذيب” عبدالناصر، وهم الذين يدافعون عنه بالحق أو بالباطل ويرتدون ثوبه السياسي، في خلق انطباعات سلبية عنه، لأنهم نزهوه عن كل الأخطاء التي ارتكبت في عهده، ورفعوه إلى عنان السماء، وأرجعوا نكساته إلى الإمبريالية العالمية، والمؤامرات الدولية، ولم يحمّلوا الرجل نقيصة واحدة.
تستفز هذه الطريقة خصومه، ما يقود إلى وضع جميع الكوارث التي مرت بها المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج على كاهله، ونادرا ما تجد تقييما موضوعيا، فإما مع أو ضد. في الحالتين تتوه المواقف والمعالم والحقائق، ويصبح عبدالناصر هو الشخص الأكثر إثارة للجدل مصريا وعربيا حتى الآن.
يجد الخلاف طريقه عادة مع الزعماء الذين تركوا بصمات في حياة شعوبهم والمنطقة والعالم، ويتم استدعاء القائد أو الملهم عندما تمر دولته بانتكاسات، فيصبح الحنين إلى الماضي، أو النوستالجيا، وسيلة للهروب من مرارات الواقع، ويجد فيه البعض متنفسا لإسقاطات سياسية معينة، بينما في حالة عبدالناصر تتوه الدوافع والأسباب.
يمكن أن يكون الاختلاف سمة حضارية بارزة، وينطوي على رد اعتبار للبعض، إذا كان الحوار شفافا وصادقا وخاليا من الأجندات السياسية، غير أن النقاش الأخير بين الجزائرية والمصري أكد أن المسألة مليئة بالأحكام القطعية المسبقة، فكل طرف عمد إلى توظيف انطباعاته في الهجوم أو الدفاع، ولم يقدم ما يثبت صواب رؤيته.
يكمن هنا أحد أوجه الخلل في التقييم، حيث تلعب الثقافة والتكوين الفكري والسياسي دورا مهما في تحديد الموقف، فالطبقات الفقيرة والوسطى تجدها غالبا مؤيدة لعبدالناصر، والعكس قد يكون صحيحا.
يرتبط الحنين لعصره في مصر بالانحيازات الاجتماعية أكثر من التوجهات السياسية. ففي الأولى حقق إنجازات عادت بالفائدة على قطاعات كبيرة، بينما تسبب في تدهور كبير بالنسبة للثانية. وتظل بصماته في الأولى مصدر شعبية، ولا يجد البعض من النخب الذين أضيروا من ممارساته السياسية غضاضة في مدح إجراءاته الاجتماعية.
يدور نقاش في مصر حول درجة التشابه بين الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي وبين عبدالناصر استمد بريقه من تراكم التحديات الإقليمية. وبصرف النظر عن التشابه والاختلاف فلكل عصر تطوراته وطقوسه وحساباته ورجاله. ومن الصعوبة تطبيقها على عصر آخر، فقط يمكن استلهام قسمات منها وتطويرها بما يناسب المستجدات.
يبقى عبدالناصر مختلفا عليه مصريا وعربيا، فقد كان صاحب مشروع طموح، وواجه مطبات عسيرة في الداخل والخارج، وإخفاقات ونجاحات، وظهر خلال فترة من أكثر الفترات رواجا بالزعماء الكبار، تجاوزت تصوراته الأبعاد المحلية التقليدية، ما جعله محط أنظار قوى عديدة، ومن البديهي أن يستمر الاختلاف عليه.
لن تتوقف التقديرات حول الرجل وتجربته، لأنه لم يكن قائدا عاديا، فهو صاحب كاريزما سياسية، وأجاد مخاطبة الجماهير ودغدغ مشاعرها، الأمر الذي يأخذه عليه خصومه، حيث استغل شخصيته في التأثير على عواطف الناس أكثر من عقولهم، وهذه واحدة من الأسباب التي تفسر تعلق فئات كبيرة به ولو لم تعش خلال فترة حكمه.
وهي أيضا من مبررات الهجوم عليه، فقد تحوّل الرجل إلى ما يشبه المخدر، واستند عليه البسطاء في التعويل عليه لتحقيق أحلامهم، ثم تركهم نهبا للخيال وقضى نحبه.