د. ابراهيم ابراش يكتب:
التطبيع ما بين الأمس واليوم
حتى نعرف عمق التحولات السياسية في العالم العربي في الجانب المتعلق بالصراع العربي أو الفلسطيني/الإسرائيلي نقارن بين ما جرى عندما قام الرئيس المصري محمد أنور السادات بزيارة القدس ثم توقيع معاهدة صلح أو سلام مع الكيان الصهيوني 1979، وما يحدث الآن من توقيع دولتين عربيتين هما الإمارات والبحرين، "اتفاقية سلام" معه. في الحالة الأولى قررت الدول العربية نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس، ومقاطعة مصر، وخرجت مظاهرات مليونية في أغلب العواصم العربية منددة بالتطبيع، وبعد ثلاث سنوات تم اغتيال السادات في حادث المنصة في 6 أكتوبر 1981من طرف جماعة متطرفة مصرية بتهمة الخيانة لأنه طبع واعترف بالكيان الصهيوني.
أما الآن فالتطبيع يتم مع دولتين ليست في حالة حرب مع الكيان الصهيوني، وجامعة الدول العربية تبارك التطبيع، وغالبية الدول العربية صامتة إن لم تكن موافقة، والقيادة الفلسطينية تقف شبه وحيدة ليس في مواجهة الدولتين المطبعتين بل في مواجهة عديد الدول العربية الصامتة أو المعارضة للتطبيع بتحفظ، والجماهير العربية منشغلة بهمومها الداخلية أو مقهورة وغير قادرة على التعبير عن رأيها بحرية. في الحالتين كانت واشنطن هي الوسيط في عملية التطبيع إلا أنها في الحالة الأولى كانت وسيطاً عن بعد أما في الحالة الأخيرة فهي العراب والمحرك الرئيس للتطبيع.
هذا هو الفرق بين عرب الأمس وعرب اليوم، ولكن أيضاً هناك فرق واختلاف كبير بين ما كان عليه الفلسطينيون بالأمس وزمن كامب ديفيد وما هم عليه الآن، حيث أن صلابة الموقف العربي تجاه التطبيع يتأثر بالموقف الفلسطيني تجاه الكيان الصهيوني، وكما تقول الأنظمة العربية لا يمكن أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم.
في السبعينيات كان الفلسطينيون موحدين في الداخل والخارج في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، يمارسون الكفاح المسلح أو العمل الفدائي في كل أرجاء فلسطين المحتلة وفي خارجها، كان شعارهم هويتي بندقيتي والهوية الوطنية بهذا المعني كانت جامعة للكل الفلسطيني بل تتسع لتشمل غير الفلسطينيين، لم تكن هناك مساومة على الحقوق الوطنية، كان الشعب الفلسطيني صاحب أنفة وعزة وكرامة لا يمكن شراؤه بالمال من أي طرف عربي أو إقليمي، كان هناك قيادات ذات شأن ووزن واحترام فلسطينياً وعربياً ودولياً ويُحسب لها ألف حساب.
أما حال الفلسطينيين اليوم وبالرغم من كل أشكال البطولة والتضحيات التي قدموها فقد آلت الأمور إلى: وقف المقاومة المسلحة بل فقدت هيبتها عندما أصبحت ورقة للمساومة على المال والمساعدات كما يجري على حدود قطاع غزة، اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، السلطة تنسق مع دولة الاحتلال، الانقسام يتعمق مصحوباً بصراع على سلطة هزيلة تحت الاحتلال، الأحزاب تخوِّن وتكفِّر بعضها البعض عبر الفضائيات وكل أشكال التواصل الاجتماعي، تتفكك الهوية الوطنية والأواصر الاجتماعية والأسرية، تفعَل استراتيجية الإلهاء فعلها في المواطنين المسحوقين تحت وطأة الفقر والجوع والبطالة وأزمات الكهرباء والمياه والتنقل والسفر عبر الحدود، كما تحول الفدائيون والمجاهدون إلى موظفين يعتاشون على مساعدات وأموال أقرب للرشوة الجماعية من أصحاب أجندة عربية وإقليمه ودولية.
قد تكون هذه صراحة مؤلمة ولكنها تعبير عن واقع عربي ودولي لا تهب رياحه حسب ما تشتهي السفن الفلسطينية، ولا يمكن للفلسطينيين أن يطلبوا من العرب ما يفتقدونه أنفسهم وهو وحدة الموقف، ولا ما كانوا يطلبونه قبل عقود، ولا يبدو في المدى القريب عودة الأمور العربية والدولية وحتى الفلسطينية إلى زمن السبعينيات والثمانينيات.
تطبيع بعض الأنظمة مع الكيان الصهيوني ليس نهاية الكون ويجب ألا يزعزع قناعة الشعب الفلسطيني بعدالة قضيته لسببين: الأول أن الأوضاع قبل تطبيع الإمارات والبحرين لم تكن وردية حتى نقول بأن التطبيع الجديد هو الذي أوقف أو عطل حصاد الانتصارات، والسبب الثاني أن الفلسطينيين هم أصحاب القضية والحق، والصراع واقعيا وبعيداً عن الأيديولوجيا والشعارات صراع فلسطيني إسرائيلي منذ مؤتمر مدريد للسلام 1991 ولن يكون هناك سلام لا في فلسطين ولا في الشرق الأوسط إلا باستعادة الشعب الفلسطيني لكامل حقوقه المشروعة.
لا نريد أن نقلل من خطورة تطبيع دولتي الإمارات العربية والبحرين مع إسرائيل، ولكن في نفس الوقت يجب عدم تهويل الأمر وكأن كل الأمة العربية تُطبِّع مع إسرائيل أو كأن هاتين الدولتين بالفعل كما يقول ترامب ونتنياهو ستحددان مسار السلام في العالم العربي وربما في العالم!!!، فنحن نتحدث عن دولتين تعترفان بإسرائيل وحتى إن أضفنا الأردن ومصر يكون العدد 4 دول من مجموع 22 دولة عربية، لا داع للهلع والتشنج تجاه تطبيع هاتين الدولتين وعلى القيادة الفلسطينية التفكير بالدول غير المطبعة وكيف تحافظ على ثباتها في مواقفها، أيضاً كيف تستعيد العلاقة الأخوية بين الشعبين الإماراتي والبحريني مع الشعب الفلسطيني، وليس من الحكمة التسرع في التخلي عن العمق العربي بالرغم من كل ما فيه من سوء، لأنه في حالة فقدان هذا العمق فإن البديل مشروع الشرق الأوسط الذي تعمل واشنطن على بنائه وانفراد إسرائيل بالشعب الفلسطيني، كما لا يمكن المراهنة على المحور القطري التركي حيث في هاتين البلدين أكبر القواعد العسكرية الأميركية، كما أن قطر تعترف بصفقة القرن وتركيا عضو في حلف الأطلسي وبينها وإسرائيل علاقات دبلوماسية.
وأخيراً ولأن الاستراتيجية تُبنى على الواقع والمستقبل وليس على الماضي ولأن العالم يتغير، نتمنى على القيادة الفلسطينية الشرعية التفكير والعمل استراتيجياً ليس بما كانت عليه العلاقة تاريخياً بين فلسطين والعالم العربي ولا على المأمول من العرب بل بما عليه الواقع وباحتمال أن تعترف كل أو أغلبية الدول العربية والإسلامية بإسرائيل، وهذا يتطلب وضع استراتيجية وطنية تعتمد على الممكنات الفلسطينية وعدم المراهنة على العالمين العربي والإسلامي وكأنهما عمق استراتيجي ثابت ومضمون للفلسطينيين، وفي نفس الوقت التفكير بكيفية تصويب العلاقات مع الأنظمة العربية حتى وإن كانت مطبعة مع إسرائيل.