محمد أبوالفضل يكتب:
احتفالات أكتوبر في مصر وإسرائيل تكشف المستور
كثفت مصر رسميا وشعبيا احتفالها هذا العام بالذكري الـ47 لحرب 6 أكتوبر، وبالغ الجميع في الاحتفال، ولسان حالهم يقول إن السلام لا يمنع أن إسرائيل عدو إستراتيجي، وعبرت لقاءات إعلامية أجريت مع قادة كبار شاركوا في النصر عن هذا المعنى بأشكال مختلفة، ما أوحى أن البلاد تعيش أجواء حرب وليس أجواء سلام.
أكد هذا المعنى بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل، عندما كتب على حسابه في تويتر بهذه المناسبة قائلا “رغم الموقف الضعيف في بداية الحرب، قلبنا الموازين رأسا على عقب وحققنا النصر في غضون ثلاثة أسابيع بعد الهجوم المفاجئ الذي شنه الأعداء، والذي كان من الأصعب في التاريخ العسكري، وقف مقاتلونا على أبواب القاهرة ودمشق”.
لن أناقش التغريدة التي تحمل مغالطات عسكرية عديدة يتولاها أهل الاختصاص، لكن بثها في هذا التوقيت ينطوي على معانٍ سياسية أبعد من مجرد الاحتفال، وتفتح الباب أمام اجتهادات عكس التيار العام.
تكشف هذه النوعية من المناسبات جانبا من المستور في العلاقات بين مصر وإسرائيل، حيث يحاول كل طرف التحلي بقدر من الدبلوماسية في علاقته بالآخر، وتجنب فتح جروح عسكرية أو سياسية مؤلمة حفاظا على صيغة السلام البارد، ليظل الموقف الإستراتيجي مكتوما، أو يتم التعبير عنه إذا كانت هناك ضرورة لذلك.
تلجأ الدول أحيانا إلى مناسبات قومية لتوظيفها في توصيل رسائل معينة، لا تريد الحديث عنها مباشرة احتراما لحسابات إقليمية وتقديرا لمواءمات سياسية، وتتعمد تصعيد أو خفض نبرة الخطاب الرسمي حيال الجهة المقصودة وفقا لمتطلبات كل مرحلة، وهي تعلم أن إشاراتها لا يتم تجاهلها، بل حتما تصيب الهدف.
في حالتي مصر وإسرائيل قد يكون الهدف الأول هذه المرة داخليا، بمعنى أن كل طرف يريد توجيه رسالة إلى الجمهور المحلي، فالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ألقى بهذه المناسبة كلمة مفعمة بالمعاني الوطنية والقدرات الكبيرة التي يملكها الجيش المصري، بما يتجاوز الدور العسكري لهذه المؤسسة في حرب أكتوبر، حيث أشار إلى دروسها وأهمية التحلي بالقوة والجاهزية، وأجرى إسقاطا على بعض القضايا.
أراد النظام المصري شحذ همم المواطنين باستدعاء قصص عديدة من النصر، وهي مثيرة حقا في كثير من حلقاتها وحكاياتها، لكن الأهم الربط بين فكرة أن الحاضر هو امتداد لماضٍ مشرق، بالتالي لا بد أن يكون مثله ليمهد الطريق نحو المستقبل.
تكرر الاستدعاء أيضا في مناسبة الذكرى الخمسين لوفاة الرئيس المصري جمال عبدالناصر في 28 سبتمبر الماضي، وظهرت تكهنات قالت إن السيسي هو ناصر جديد، بعد أن جرى الاحتفال هذا العام بشكل كبير ولافت، وبما يفوق فكرة حلول نصف قرن على رحيل عبدالناصر، وبدت الذكرى مليئة بالإشارات المتباينة.
قد يمثل الاحتفال المصري في المناسبتين، ذكرى الوفاة ونصر أكتوبر، تناقضا في نظر البعض، على اعتبار أن الميراث السياسي السائد في الوجدان العام يشير إلى أن الرئيس الأسبق أنور السادات، الذي قاد حرب أكتوبر، كانت لديه تحفظات على إدارة سلفه الرئيس عبدالناصر، ومضى في طريق سياسي واقتصادي مغاير له، فكيف يبجّل الرئيس السيسي القائدين في آن واحد؟
يبدو السؤال منطقيا، ويفسر جزءا مهما في الاحتفالات الرسمية الواسعة التي نصبت في المناسبتين خلال أقل من عشرة أيام، وحملت مضمونا مختلطا، يشدد في محتواه النهائي على أن السيسي ليس عبدالناصر أو السادات، ويقف على مسافة واحدة منهما.
أكد الرجل أن نظامه يجمع خبرة الزعماء السابقين، في المشروعات القومية، وحنكة الحرب والسلام، ويواصل المسيرة السابقة، مستفيدا من العبر، والرغبة في عدم تكرار الأخطاء، عبر اللجوء إلى القوة الرشيدة، وتنويع العلاقات مع القوى الكبرى.
هو في المحصلة يطمئن الداخل بأنه يعرف قيمة هذا الوطن، ويغازل الخارج بأنه يستوعب التوازنات، وبإمكانه رسم خارطة عملية للأطر التي يمكن أن تمضي عليها مصر الفترة المقبلة، في ظل تحولات متوقعة في معادلة السلام التي تباركها القاهرة.
وُضعت إسرائيل في جمل سياسية اعتراضية ضمنية وسط الاحتفال بذكرى رحيل عبدالناصر، وحرب أكتوبر، وبدت كهدف سلبي للغاية، ما جعل ظلالها حاضرة في المناسبتين، وأن معاهدة السلام الموقعة معها لها دواعٍ تكتيكية أكثر منها إستراتيجية، ولن تكبل الجيش المصري أو تمثل عائقا أمام قيادته، حال حدوث خلل عسكري .
تعامل نتنياهو مع حرب أكتوبر مثل غالبية الأدبيات الإسرائيلية التي تراها انتصارا على العرب وليست هزيمة، وفي إشارته المبالغ فيها (وقف مقاتلونا على أبواب القاهرة ودمشق) ما يوحي بالاستعداد لتكرار التجربة، إذا كانت هناك ضرورة، وحملت ما يفهم منه أن التوجه الجديد نحو السلام لا ينفي التخلي عن الحرب.
لدى إسرائيل رؤية عكسية حيال القاهرة قريبة من الرؤية التي تكنها لها مصر، وتعرف أن معاهدات السلام لها دواعيها الإقليمية التي يمكن أن ينفرط عقدها، لأن المسألة في لحظة معينة ربما تتجاوز قرارات الحكومات، وتخضع لتقديرات الشعوب، أو تعيد إنتاج التجربة المصرية في التعامل مع السلام على أنه عنوان بلا مضمون حقيقي.
تعمد نتنياهو أن يغرّد بعبارته المختصرة ليفهمها الجمهور الإسرائيلي بشتى ألوانه السياسية، على أن مضيّه في اتفاقيات السلام لا يقلل من علاقته بالحرب، وإذا كان الآباء طرقوا أبواب القاهرة ودمشق، فالأبناء لن يترددوا في مواصلة المسيرة.
وجد رئيس الوزراء الإسرائيلي في الاحتفال بحرب أكتوبر فرصة للتلميح من طرف خفي إلى أن توجهاته نحو السلام لن تنسيه ذكريات ما جرى مع كل من مصر وسوريا، في محاولة لعدم خسارة اليمين المتطرف المتحفظ على صيغة المعاهدات.
يعرف كل طرف ماذا يريد في هذه المرحلة، ويستغل مناسبات عدة لتوصيل إشارات محددة دون أن يرفض الانخراط في مكونات إقليمية للتعاون، تعبر عن طبيعة مرحلة تتطلب الدفع نحو اتجاه سياسي ترى الولايات المتحدة أهمية في تشجيعه ورعايته.
تتعاطى مصر وإسرائيل مع هذا الاتجاه بمرونة واضحة، غير أن الطريقة التي يدير بها كل جانب حساباته تختلف عن الآخر، وأصبحت محاولات التلاقي للتعاون مضنية، ربما يؤدي تبادل المصالح إلى رفع العتب وبعض الممانعات، الأمر الذي يعد اختبارا حقيقيا لحجم الثبات والتغير عند الاحتفال بذكرى أكتوبر العام المقبل.