محمد أبوالفضل يكتب:
عصر التفكير الأمني في المنطقة العربية
تعيش المنطقة العربية حاليا أوج ازدهارها في غلبة التفكير الأمني على السياسي، وفرضت الصراعات المسلحة التي تموج بها حدوث تقدم واضح في دور القادة العسكريين، وتضخم المهام التي يقومون بها، بما يتجاوز جمع المعلومات وتحليلها والتوصية بالقرار المناسب، إلى حد اتخاذ السبل اللازمة لتنفيذه دون معاونة سياسية.
يبدو أن عهد الثعالب السياسية الذي راج في سنوات سابقة قد تراجع كثيرا، حتى في عملية حل النزاعات وتسوية الأزمات باتت تأثيرات هؤلاء غير ملموسة، وإن وجدوا فالبعض منهم ينزوون أو يظهرون لزوم الدواعي الدبلوماسية في الاجتماعات واللقاءات العامة، بينما تدار الحلقات المركزية من قبل جهات بعيدة عنهم، غالبيتها خفية.
لم تعد هذه الظاهرة قاصرة على دولة معينة، بل تشمل دولا كثيرة في المنطقة، من دون تفرقة بين طبيعة أنظمتها الحاكمة، وهل هي ذات جذور عسكرية أم مدنية، وملكية أم جمهورية، فالنتيجة تكاد تكون متشابهة في الاشتباك مع أحداث خرجت عن سياق الحروب التقليدية، المعروفة بدايتها ونهايتها، والطاولة التي يجلس عليها أصحابها.
تتجاوز القضية الحالة العربية الراهنة لتعبر إلى دول في الغرب والشرق، حيث تراجعت أدوار وزارة الخارجية، فعدد كبير من المشكلات تحمل طابعا عسكريا، ما منح وزارة الدفاع وأجهزة الاستخبارات في دول متباينة أدوارا مضاعفة تفوق مهامهم العادية، وأضحت مسؤولة عن التعامل مع المعطيات في إدارة الحرب والسلام.
يترقب المتابعون أنفسهم التعرف على الفاعلين الأمنيين وفحوى تصوراتهم السابقة، سواء كانوا دولا أو تنظيمات أو أشخاصا، ليتمكنوا من فهم سير الكثير من النزاعات اللاحقة، ويسهم هذا البعد بدور بارز في رسم السياسات على الأرض.
من ينظر إلى التطورات في كل من سوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان، وقبلها جميعا الصومال، وغيرها، يجد الملمح الأمني حاضرا بقوة، وتتجاوز تداعياته الحدود المحلية، حيث تتراكم خيوط خارجية لتلعب دورا مؤثرا في صعود وهبوط درجة الصراع، وتمدد الروافد إلى دول مجاورة.
من ينظر أيضا إلى الدول الأكثر هدوءا، مثل مصر وتونس والجزائر، يجد على الفور أن الإرهاب والجماعات المتطرفة في مقدمة المخاطر التي تزعجها، بما يضفي بريقا على المكونات الأمنية، حيث تمادت الفرق التابعة لهذه الدول في تغليب القتل لمواجهة الخصوم، وكشفت عن وجه قبيح لا يتردد في التدمير، ولا يمكن مبادلة العنف بالسلام، وأخرجت البعض عن حلمهم بإمكانية التعايش مع المتشددين أو حسن الظن بهم.
تأخذ الاتفاقيات والمعاهدات التي تعقد بين الدول اتجاهات عسكرية أكثر منها سياسية، بما يتناسب مع طبيعة التحديات الإقليمية، وارتفعت صفقات الأسلحة وأنواعها إلى عنان السماء، وأصبح التعاون في مكافحة الإرهاب من المجالات التي تتطلع إليها دول المنطقة، وتحرص على الاستفادة من التطورات الحديثة لتعزيز القدرات الأمنية.
في تسوية الأزمات واللقاءات التي تسبقها لا يخلو وفد رسمي من قيادات عسكرية تدير أموره من وراء الكواليس وتقديراتهم محل اعتبار لأن الطابع الذي يغلب عليه الصراع يظل مسيطرا
يقع على عاتق الجهات العسكرية الدور الكبير في هذه المسألة، بحكم خبراتها، الأمر الذي يعزز من مكانتها لدى النظام الحاكم، حتى لو كانت ميوله مدنية.
عظّمت التداعيات السلبية التي لحقت ببعض الجيوش العربية من أهمية إعادة البناء والجاهزية القوية، باعتبارها الضامن للوحدة والاستقرار، بما انصب على تعظيم مماثل لقادة المؤسسات العسكرية، والتقليل نسبيا من حيوية النخب السياسية، والدور الذي تقوم به في تغذية الهياكل بالرؤى والدراسات المستقبلية.
كما أن التهديدات المباشرة القادمة من دول مثل تركيا وإيران، أو عبر أذرعها من ميليشيات ومرتزقة وكتائب وعصابات مختلفة، تسلك طريقا مسلحا لتحقيق أهدافها، وترى أنه المدخل الوحيد الذي يؤدي إلى تحقيق الطموحات، ومن الطبيعي أن يتم التعامل مع ذلك بوسائل أمنية، فلا مجال هنا لتصدر الأدوات السياسية النمطية.
تلجأ الدول في هذه الحالات إلى القنوات الاستخباراتية وتبتعد عن الأطر السياسية، لأن معظم الأزمات والخلافات أمنية، وتفاصيلها موجودة عند الجهات التي تعرف خباياها، ما يمكّنها من امتلاك مفاتيح الحل والعقد.
خلّفت هذه الظاهرة ميراثا كبيرا، له أسبابه المفهومة إلى حد بعيد، للمزيد من أدوار القيادات العسكرية في المنطقة، ودفعت بهم إلى القبض على زمام أمور عديدة بالتوازي مع أدوارهم الرئيسة، وقلصت مساحة الازدواجية بين الطبقتين الأمنية والسياسية، لكنها أوجدت حساسية، لأن دور الطبقة الثانية أصبح قليل الفاعلية، فغالبية المحركات وعجلة القيادة تقعان في قبضة يد الطبقة الأولى.
رسخت هذه الحالة نفوذ الطبقة الأمنية بسهولة في الكثير من مفاصل الحكم في بعض الدول العربية، بذريعة أنها الأكثر قدرة على مجابهة الأزمات، ما يسهم في توسيع رقعة الشطرنج لتشمل مساهمات مدنية مع الأمنية.
كانت هذه الحالة تمثل شيئا مرفوضا في دول عدة، أو على الأقل محل امتعاض من قبل فئات كثيرة، لأنها ترخي بظلال قاتمة على إدارة الحياة السياسية، بينما الآن لم تعد الممانعات مؤثرة، في ظل أجواء مشحونة بأزمات في الداخل، أحد أبرز مظاهرها شكل التهديدات التي تحملها التنظيمات المتطرفة للبلاد.
تعتمد تحديات الخارج على هذا العنصر الذي يتضافر مع تحديات أخرى تمثل تهديدا مباشرا للأمن القومي للدولة. وكلها عوامل تحتاج إلى عقلية تدرك جوهر المخاطر التي تحملها قوى وجماعات مسلحة، تبدو الطرق السياسية قليلة الفاعلية معها.
في تسوية الأزمات واللقاءات التي تسبقها لا يخلو وفد رسمي من قيادات عسكرية، تدير أموره من وراء الكواليس، وتقديراتهم محل اعتبار، لأن الطابع الذي يغلب عليه الصراع يظل مسيطرا، فتكونت لجان عسكرية خاصة بالإدارة وتحديد التوجهات.
ألقى هذا البعد بملامح سلبية على درجة المرونة التي تتحلى بها إدارة الأزمات، حيث انخفضت إلى حد كبير، لأن من يديرون الدفة يتسمون بقدر عال من الصرامة، ويرفعون دائما سقف التوقعات، ويحجمون عن تقديم التنازلات، ما يفسر الانسداد الحاصل في عدد كبير من المشكلات الإقليمية، رغم التوصل إلى قناعات تشي بحلها.
يفسر تراجع دور السياسيين وتقدم العسكريين زيادة المناقشات والوقت الذي تستغرقه تسوية الأزمات وانتقالها من محطة إلى أخرى، ويؤكد زيادة التعقيدات التي تحيط بها، والحرص على سد ثغرات التفاصيل التي يمكن أن تفتح أبوابا جديدة للشياطين.