محمد أبوالفضل يكتب:

السّاعون لربط حقوق الإنسان بصفقات السلاح

لم تكن المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة بالطبع، التي تتم فيها محاولات ربط التقدم في حقوق الإنسان بمصر بصفقات السلاح أمام القادة الأوروبيين، وقد يأتي الرد على الفور مماثلا لما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في المؤتمر الصحافي المشترك، الذي عقده مع نظيره المصري عبدالفتاح السيسي الأسبوع الماضي، وأكد فيه على الفور عدم استعداده للربط بينهما.

يمثل التنصل من الربط إشكالية للمنظمات الحقوقية المؤثرة والعابرة للحدود، التي تنظر للقضية من منظورها الأخلاقي فقط، حتى ولو انطوى على أغراض سياسية، وتتجاهل شبكة المصالح العريضة بين الدول، التي تنعكس في ارتفاع حجم الإنفاق في صادرات الأسلحة على مستوى العالم، ولا تعترف سوى بالمكاسب وما تتضمنه من عوائد على المستوى الاستراتيجي، فالصفقات تتجاوز العائد المادي المباشر.

في كل مرة سيتكرر السؤال مع مصر، أو غيرها، فهناك العديد من الدول التي سوف يجري تسليط الأضواء عليها في الملف الحقوقي، استثمارا لموجة أميركية منتظرة في هذا المجال عقب استلام الرئيس الأميركي جو بايدن للسلطة في العشرين من يناير المقبل، ربما تأتي الإجابة بنفس الطريقة التي تفوّه بها ماكرون في جرأة يحسد عليها.

 يأتي الحسد من كون فرنسا، معروفا أنها بلد الديمقراطية والحريات، لم تخجل من الحديث عن المصالح التي تتقدم على قيم حقوق الإنسان، بصرف النظر عن وجاهة المسوغات التي يجري تقديمها حول مصر، ومدى دقتها ومشروعيتها، والأجواء التي تتم فيها، حيث وجد ماكرون في قاعدة مكافحة الإرهاب مدخلا مقنعا لمحدثيه لتبرير ما يوصف بالتنازلات، ومع تراجع حدة هذه المعركة لن يتغير خطابه، لأن القضية تتجاوز الصفة التي يستند عليها رافعو لافتات حقوق الإنسان بصورة مجردة.

يعلم من يحلمون بالربط بين الملفين أن تحقيقه صعب، وفي قول آخر ضرب من الخيال، لكنهم يدركون أن التكثيف وإثارة اللغط والصخب يمكن أن يثمر مردودات سياسية، من خلال الضغط الشعبي على صناع القرار، فالمسألة لا تتعلق بدولة معينة، لكن تتعلق بدور يجيده البعض، ومهمة يرى أصحابها أنهم موكّلون وأمناء عليها.

يتغافل مبعوثو العناية الحقوقية عن تصاعد التيار الشعبوي في أوروبا وغيرها، وهو تيار لا تمثل حقوق الإنسان همّا قاسيا له أو وجعا يؤرقه ليلا ونهارا، على العكس يرى فيها المنتمون إليه أداة مزيفة ووسيلة ملوثة سياسيا، ولا يلقون لها بالا، ويؤدي التركيز عليها إلى نتائج في اتجاه مضاد يجعل من مستقبل المتصدرين مشهد حقوق الإنسان قاتما.

تحول هذا الملف في وقت من الأوقات إلى مصدر ضغط، على كل من الصين وروسيا وكوريا الشمالية، وبات مادّة دسمة في أيدي منظمات نشطة عاملة فيه، ومدخلا رئيسيا على طاولة بعض الزعامات الغربية، مع ذلك لم تتبدل أحوال أي منهم، ومضى كل منهم في طريقه وهو غير عابئ بردود فعل الرافضين.

ليس صحيحا أن عقد الصفقات والتخلي عنها يتم بجرة قلم ويتحكم فيها الرئيس وحده، فهي تجارة رائجة تقوم عليها مؤسسات عملاقة ومصانع تابعة لجيوش كبيرة ولها حسابات دقيقة وتقديرات عميقة

لم تتبدل الأوضاع، ليس لأن حقوق الإنسان شهدت تحسنا أو تغيرت نظرة المنظمات الحقوقية، بل لأن هذه الدول نجحت في تجاوز المطبات والعراقيل ومضت لحال سبيلها، وصاغت المعادلة الداخلية بشكل يتناسب مع ظروفها، ورفضت الرضوخ لضغوط دول وابتزاز منظمات، أو حتى القبول بزيارات استكشافية، وتعاملت بصرامة مع المنتقدين، ووضعت حدا لكل من أرادوا لهذا الملف أن يصبح وسيلة للعصف.

كما أن المتاجرة السياسية بحقوق الإنسان والإصرار على ربطها بصفقات السلاح، لعبت دورا غير مباشر في التطور العسكري في الدول الثلاث، ولا أقول إن النيل من الحقوق أو الإسراف في القسوة البشرية يوفران بيئة خصبة للتقدم في سوق السلاح، لكن عدم الالتفات إلى الضجيج كان مهما لرواجه، ولم نعد نسمع أن أيا من الدول الثلاث الضالعة في صناعة الأسلحة المتطورة يجري تقييمه على أساس حقوق الإنسان.

لم يعد الغرب نفسه محتكرا لهذه التجارة، وأي محاولة من جانب دوله ترهن فيها بيع أسلحة بموجب بوصلة حقوق الإنسان تعني خسارة كبيرة، لأن غالبية الدول المتهمة بخروقات في هذا الملف تقبل بشراهة على شراء الأسلحة، وبسهولة يمكن أن تتجه إلى قوى أخرى لا تعبأ بهذا المقياس المطاط، الذي يظهر ويتم الإنصات إليه عندما تكون هناك حاجة سياسية، أو دافع قوي يفرض اللجوء إلى المفردات الجذابة.

عزز الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب مبدأ الصفقات قبل المبادئ، وصك منهجا سياسيا يُعلي من قيمتها على المستوى الدولي، للدرجة التي جعلت من استمعوا إلى خطاب ماكرون في حضور السيسي كأنهم يستمعون إلى صوت ترامب يتردد في الطرح والتفسيرات والمبررات، ما يشي بأن منهج الأخير وجد آذانا صاغية، وسوف يتم استخدام طريقته بعد رحيله، لأن ما يسمى بـ”الترامبية” صارت رائجة.

من يعتقدون أن الرئيس الديمقراطي بايدن قادر على ضبط دفة الأمور في الجانب الحقوقي، يتجاهلون الحالة التي سيجد عليها الرجل بلاده، فهي بحاجة إلى ترميم سياسي واسع النطاق في الداخل والخارج، ومن ثم سيكون منشغلا بضبط الخلل الذي ضرب الكثير من المناحي في الولايات المتحدة، وعليه ترميمها قبل أن يتزايد ثقلها، ما يستوجب المزيد من الصفقات العسكرية والقليل من حقوق الإنسان، وليس العكس.

ليس صحيحا أن عقد الصفقات والتخلي عنها يتم بجرّة قلم، ويتحكم فيها الرئيس وحده، فهي تجارة رائجة تقوم عليها مؤسسات عملاقة، ومصانع تابعة لجيوش كبيرة، ولها حسابات دقيقة وتقديرات عميقة، في ظل أسواق مفتوحة في الشرق وأخرى في الغرب.

يعلم من رفعوا شعارات إنسانية هذه الحقائق كاملة، ويعلمون أيضا أن ضغوطهم غير مؤثرة كالسابق، غير أن دورهم سوف يظل مطلوبا حتى لو خفت نجمه وتراجع تأثيره، ففي النهاية هناك منظومة قيم من الضروري الحفاظ عليها، بعيدا عن الدوافع السياسية الكامنة خلف رؤية المدافعين عنها، أو جرى ترسيخ فكرة رفض الربط بين حقوق الإنسان وصفقات السلاح، لأن الأخيرة وسيلة لغاية نبيلة.

سوف يبقى الحالمون بالربط بين الجانبين على حالهم من الانتقائية والازداوجية، لأن الدفاع عن حقوق الإنسان أوسع من صفقات السلاح، التي لا تستطيع الدول المصدرة والمستوردة الاستغناء عنها، ولذلك عليهم البحث عن ثغرات مقنعة لتكون هناك جدوى أو صدى لمهمتهم التي لا تخلو من مآرب سياسية.