د. ابراهيم ابراش يكتب:
المشكلة في أميركا وليس في رئيسها
حتى بدون تخطيط فإن الأزمات التي افتعلها الرئيس السابق دونالد ترامب خلال ولايته وأثناء العملية الانتخابية أدت لتبييض صفحة الولايات المتحدة خارجياً وتجديد ديمقراطيتها داخليا وتحميل ترامب وزر كل أخطاء إدارته وكل الإدارات السابقة، وبذلك يكون ترامب قدم خدمة لبلاده ولخلفه جو بايدن الذي ستجد سياساته في فترته الأولى القبول دون كثير معارضة عندما يتم مقارنتها بسياسات سلفه ترامب وخوفاً من أن يؤدي فشله لعودة ترامب والحزب الجمهوري.
الارتياح داخل الولايات المتحدة وخارجها لنجاح الديمقراطي جو بايدن لا تمنح حكم مطلق بالأفضلية أو شهادة حسن سلوك مسبقة للرئيس بايدن وحزبه الديمقراطي أو أن الولايات المتحدة في عهد بايدن انفصلت عن تاريخها السيء وخصوصا تجاه شعوب العالم الثالث وحركاتها التحررية والتقدمية، أو أنها لم تعد ما كانت عليه طوال عقود وخصوصاً في مجال السياسة الخارجية وبتحديد أكثر في علاقتها بالشرق الأوسط وبالقضية الفلسطينية.
ما جرى في الانتخابات الأخيرة أن الأميركيين والدولة العميقة أنهوا حكم رئيس نهج بعض السياسات والمواقف الدراماتيكية والتي تتعارض مع ما سارت عليه الإدارات الأميركية المتعاقبة وخلق حالة من الاحتقان الداخلي التي نتجت عن تصريحاته ومواقفه العنصرية، ومواقفه في السياسة الداخلية كانت السبب الرئيس في خسارته للانتخابات.
صحيح أن الرؤساء في الولايات المتحدة يضعون ويتركون بصماتهم على سياسة البلاد ولكن لا تتغير الاستراتيجيات جذريا مع كل رئيس جديد. فبالرغم من تعاقب عدة رؤساء من الحزبين الجمهوري والديمقراطي على الحكم ما بعد الحرب الباردة إلا أن الاستراتيجية الأميركية تجاه العالم الخارجي لم تتغير كثيرا، لا تجاه روسيا الاتحادية أو الصين مع بعض التغيير تجاه اوروبا والأمم المتحدة، حيث كنا نلمس تغييرا في الخطاب واللغة وفي السياسة، بما هي دون الاستراتيجية، وليس تغييرا في الاستراتيجية نفسها.
وبالنسبة للملفات المتعلقة بالشرق الأوسط وأكثر تحديداً بالنسبة لإسرائيل. فالرئيس الجديد بايدن من الحزب الديمقراطي وهو حزب عريق حكم الولايات المتحدة لعقود طويلة بالتناوب عبر صناديق الانتخابات مع الحزب الجمهوري وخلال هذه العقود تواصل الموقف الأميركي المعادي للحقوق الفلسطينية والمؤيد للكيان الصهيوني بغض النظر عن الحزب الحاكم، كما أن بايدن كان نائب الرئيس أوباما قبل مجيء ترامب وقد لمسنا وعشنا مرحلة أوباما التي كانت الأسوأ في التعامل مع القضايا العربية، ففي عهده رعى وموَّل، مباشرة أو من خلال الانظمة العربية التابعة لواشنطن وخصوصاً الخليجية، ما يسمى "الربيع العربي" الذي نشر الخراب والدمار في العالم العربي ومول جماعات الإسلام السياسي المتطرفة وشجع دول الجوار على التدخل في الشؤون العربية بل واحتلال بعض الأراضي العربية، كما كانت الإدارة الاميركية في عهد أوباما أكبر مساند لإسرائيل في سياساتها الاستيطانية والعدوانية، وإدارة أوباما كانت وراء فشل كل محاولات إدانة إسرائيل في المنظمات الدولية الخ.
استبشر كثيرون خيرا بذهاب ترامب وكأن المشكلة كانت في الرئيس ترامب وليس في الدولة الأميركية. فحتى لو عادت السياسة الاميركية إلى ما كانت عليه قبل أربع سنوات فهل كانت سياسة عادلة ومنصفة ومسالمة؟ وهل بمجيء بايدن وحزبه الديمقراطي ستسقط عن أميركا صفة الدولة الامبريالية والعدوانية وعدوة الشعوب العربية وقضاياها العادلة كما كان الخطاب السياسي العربي يصفها طوال عقود؟ وهل ستسقط عنها صفة وواقع الحليف الاستراتيجي لإسرائيل؟ وعندما يقول حسين الشيخ وزير الشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية إن ما صدر عن الإدارة الاميركية الجديدة من تصريحات "خطوة إيجابية يمكن البناء عليها وعودة العلاقات مع أميركا لطبيعتها"، فما هي العلاقة الطبيعية بين الفلسطينيين واميركا؟ أليست علاقة عداء وتنَكُّر للحقوق الوطنية الفلسطينية؟
وزير الخارجية بلينكن تحدث عن عودة أميركا لسياساتها قبل مجيء ترامب وخصوصا في مجال دعم الديمقراطية وتجديد العلاقة مع الحلفاء التقليديين وضرورة أن تخرج اميركا من عزلتها وأن تنفتح على العالم حتى تتمكن من قيادته، كما أن الرئيس بايدن وقَّع قرارات منها العودة لاتفاقية باريس للمناخ ولمنظمة الصحة العالمة إلا أن العلاقات مع روسيا والصين استمرت متوترة كما كانت، كما لم تتغير السياسة تجاه إيران بالرغم من التصريحات المتفائلة خلال الحملة الانتخابية.
أما بالنسبة للشرق الاوسط وخصوصا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية فوزير الخارجية الجديد أنتوني بلينكن أحبط مبكرا مراهنات المتفائلين بالإدارة الجديدة حيث أكد على التزام أميركا بأمن إسرائيل والبناء على ما انجزه ترامب فيما يتعلق بالقدس الموحدة كعاصمة للكيان الصهيوني، أيضاً بالنسبة للتطبيع العربي حيث أيد نهج التطبيع مع إمكانية إعادة النظر بما التزمت به إدارة ترامب تجاه الدول العربية المطبِعة، كصفقة الطائرات للإمارات والاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء.
نعلم، إن العالم يتغير ولم تعد نظرة العالم لأميركا كما كانت أثناء الحرب الباردة كما نعترف بأن الرئيس ترامب كان الأسوأ بين كل الرؤساء الاميركيين السابقين له في تعامله مع الفلسطينيين، وندرك أن لا دولة استطاعت ملء فراغ وقف الرعاية الاميركية لعملية التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، ولكن هذا لا يعني المبالغة في المراهنة على الرئيس بايدن وقد نفاجأ بأنه لا يختلف كثيراً عن سابقه ترامب ما دام تبنى كل سياسات ترامب بالنسبة للقدس والاستيطان.
أما المراهنة على حديث أركان إدارة بايدن بأنه يتمسك بحل الدولتين فهذا حديث سيبقى مبهما وغامضا وحمال أوجه، وقد كان الرئيس أوباما يعترف بحل الدولتين ولكن كورقة لإدارة الصراع وكسب الوقت لصالح إسرائيل حتى تواصل مشاريعها الاستيطانية وليس لحل الصراع ولم يُقدِم على أية خطوة تجعل من حل الدولتين أمرا قابلاً للتطبيق، ولن يكون لحل الدولتين أي مصداقية ما لم تُوقِف إسرائيل الاستيطان وتعترف واشنطن بالدولة الفلسطينية، ثم بعد ذلك يمكن التفاوض على التفاصيل وآليات قيام الدولة.