د. علي محمد فخرو يكتب:
لا مكان في عالمنا للدولة الصغيرة
منذ حوالي ست سنوات كتب الاقتصادي الفرنسي الشهير، توماس بيكتي، مقالاً ملفتاً للنظر تحت عنوان: «الثمن الفادح لصغر حجم الدولة». ذكر بأنه في عالم الاقتصاد العولمي ستدفع الدولة ثمناً باهظاً، إذ أنها ستجد نفسها مجبرة على قبول الكثير من الأشياء التي لا تروق لها أولا تتناسب مع قيمها. وأعطى أمثلة كثيرة لما تقبله وتتعايش معه بلده فرنسا، وذلك بالرغم عنها وعن قيمها. وذكر أن الواقع يقول بأن كل بلدان الاتحاد الأوروبي، بما فيها فرنسا وألمانيا، تجد نفسها في خانة البلدان الصغيرة التي تجد نفسها أحياناً مضطرة لتحمل ما لا تطيقه في مختلف ساحات العالم. ويخرج هذا المفكر الإقتصادي الشهير بنتيجة أساسية: ضرورة توجه أوروبا الحالية نحو مزيد من الإتحاد، وجعل هذا الموضوع على رأس أولوياتها.
ليس في ذهن الرجل المستقبل الاقتصادي فقط . فالكثير من كتاباته تدل أيضاً على قلق شديد بشأن حقول السياسة والثقافة والاجتماع الأوروبية، وخصوصاً مواضيع تحسين الممارسة الديموقراطية وتطبيق مبادئ المساواة والعدالة بين البشر.
كانت تلك مقدمة للدخول في لب الموضوع الذي يخصنا كأفراد وكمجتمعات وكوطن عربي واحد. فبلاد العرب مقسمة إلى دول ودويلات صغيرة بفعل عاملين: هناك النفوذ الإستعماري والتآمر الغربي اللذان ساهما في تقسيم هذه الأمة، وتجزئتها وتفتيت المقسم، من أجل إضعاف العرب وإبقائهم في تخلف دائم، وهناك بعض أقليات الهيمنة الاجتماعية والمصالح الاقتصادية والادعاءات التاريخية والدينية المتواجدة في الداخل، والتي ترى في بقاء التقسيم والانتقال إلى التفتيت ضماناً لبقائها في مراكز السلطة واستمرار امتيازاتها الكثيرة المتراكمة عبر التاريخ.
وهم بذلك يفضلون بقاء الأقطار العربية كدول صغيرة حتى ولو أدى ذلك إلى قبول كل المخاطر والمساوئ التي وصفها توماس بيكيتي بالنسبة للدولة الصغيرة الأوروبية، بل وحتى إلى قبول ما هو أسوأ بكثير مما تظهره الحالة البائسة التي تعيشها حالياً جميع الأقطار العربية، حتى ولو كانت بنسب مختلفة وتمظهرات متباينة.
اليوم تنهار دول عربية، وتستباح مجتمعات عربية من قبل قوى العنف والتعصب الأحمق المدفوعة الأجر من قبل الخارج والداخل، وتقف الجامعة العربية عاجزة متفرجة بينما تدار شؤون دول عربية من قبل قوى إقليمية أو دول أجنبية، وتحارب وتقمع كل محاولة مدنية، حتى ولو كانت سلمية، للخروج من تلك الأوضاع وللانتقال إلى مجتمعات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والاستقلال القومي والوطني.
ومع ذلك لا يرف جفن لمعظم من نصبوا أنفسهم قادة لتلك الشعوب والمجتمعات المقهورة المعذبة في ضياعها وقلة حيلتها أمام أدوات القمع الممنهج، وغياب القضاء العادل، وانتهازية الكثير من المجالس النيابية والكثير من وسائل الإعلام التابعة أو المغلوبة على أمرها، هي الأخرى.
إذا كانت الدولة الأوروبية الصغيرة لا تستطيع أن تواجه أهوال الحياة العصرية ويطلب منها إعطاء الأولوية القصوى للتوجه نحو الوحدة. وإذا كان يطلب ذلك من دول كألمانيا وفرنسا فماذا نقول نحن العرب عن الدولة القطرية، سواء الكبيرة أو الصغيرة، التي ترزح شعوبها تحت ذلك الجحيم الذي وصفنا، والتي هي مرشحة للتفتيت والدمار العمراني والعيش خارج العصر والتخلف المرعب في العلوم والتكنولوجيا وعوالم المعرفة؟
سيرد المتحذلقون على السؤال بذكر عشرات المصاعب التي وقفت وتقف وستقف في وجه أي محاولة للخروج من ضعف الدولة القطرية المستباحة العاجزة إلى قوة وغنى ونهوض الدولة القومية الموحدة.
لا حاجة للقول بأن الموضوع معقد وصعب، ولكن لا يوجد شك بأن هناك ألف طريق للتوحيد، وفي ألف مستوى، وللسير في طريق الألف خطوة. الدخول في التفاصيل يحتاج إلى مجلدات، ومتروك للجيل العربي الذي سيقرر ويريد ويفعل.
لكن ما يهمنا هو أن يقتنع الجيل العربي الجديد، المناضل من أجل مطالب الحرية والعدالة والكرامة وغيرها من المطالب المعيشية، بأن تحقيق كل تلك المطالب سيظل في خطر دائم، وفي مواجهة مستمرة لأعداء كثيرين، ما لم تقم نوع من الوحدة العربية كمظلة تحمي كل ما يتحقق، بل وتغنيه وتجدده عبر العصور والأزمنة.
مطلوب من هذا الجيل أن يجعل هدف قيام الدولة العربية الكبيرة القوية المستقلة الناهضة أحد أهم شعاراته وأحد أبرز أولوياته ويبرز ذلك في كل تجمعاته النضالية المباركة.