محمد أبوالفضل يكتب:
السودان في حاجة إلى ضبط سياساته الانتقالية
يعد الإفراط في الدكتاتورية خطرا حقيقيا في السودان، كذلك تمثل الجرعات الزائدة من الديمقراطية خطرا داهما، خاصة عندما تمارس على طريقة “السداح مداح”، أي بلا رابط أو ضابط أو منظومة قيمية تمنعها من الشرود يمينا ويسارا.
عانى السودان كثيرا أيام حكم الرئيس السابق عمر البشير من سلبيات الحكم العسكري، والتضييق على الحريات، ويعاني الآن من زيادة جرعاتها للدرجة التي يصعب فيها تمرير قرار قبل ضمان الحصول على توافق صريح حوله خوفا من تعطيله إذا رأت جهة سياسية أو أكثر عدم اقتناعها به لأسباب تتعلق بحساباتها اللحظية.
نجحت المكونات العسكرية والمدنية في التوصل إلى صيغة بشق الأنفس لترتيب الأوضاع خلال المرحلة الانتقالية عقب سقوط نظام عمر البشير ووضعت وثيقة دستورية ثم عدلتها بما يتواءم مع تطورات اتفاق السلام مع الحركات المسلحة، ويمكن أن تدخل عليها تعديلات ثالثة ورابعة في حال استكمال عقد بناء السلام الشامل مع حركات أخرى.
شريحة من السودانيين تنظر إلى ما جرى في تونس بعين الاعتبار فوفرة الحريات تم استغلالها بطريقة أعاقت نمو تجربة رائدة في المنطقة العربية وهو ما يخشى سودانيون من الوصول إليه
مع أن أزمات البلاد الاقتصادية والاجتماعية كبيرة، غير أن أزمته السياسية أعمق لأنها تتحكم في مفاصل أمور مصيرية، وعدم تحركها بالصورة المرضية يؤدي إلى استمرار الانسداد الذي لحق بجوانب عديدة في السودان وأحد أسبابه الرئيسية تعدد الآراء والمواقف وتباين التقديرات والحسابات لدى النخبة الحاكمة والمعارضة.
تنظر شريحة من السودانيين إلى ما جرى في تونس بعين الاعتبار وترى أنها بحاجة إلى من يضبط الدفة ويمنعها من الانزلاق، فوفرة الحريات في تونس تم استغلالها بطريقة أعاقت نمو تجربة رائدة في المنطقة العربية، وهو ما يخشى سودانيون من الوصول إليه، فالتجارة السياسية رائجة عندهم وتضرب في عمق تاريخهم الحديث.
تكمن خصوصية تونس في وجود رئيس منتخب من الشعب مباشرة، وبرلمان يمارس صلاحياته حتى لو حادت عنها حركة النهضة الإخوانية ووظفتها بما يخدم أغراضها ومصالحها، ودستور يقيّد الرئيس ويوفر حصانات لكل من الدولة والمواطنين والمجتمع المدني وكافة المؤسسات.
بينما لا يوجد في السودان رئيس أو مجلس تشريعي منتخب، وتحكم البلاد بموجب وثيقة دستورية مؤقتة قابلة للتعديل حسب مقتضيات التطورات، ومركز وهامش وولايات لكل منها حاكم شبه مستقل، وولايات بعيدة عن السيطرة الكاملة للحكومة في الخرطوم، وقد يكون مصير بعضها مفتوحا على سيناريوهات غامضة.
عقب ما قام به الرئيس التونسي قيس سعيد لضبط الأوضاع في البلاد ووقف تغوّل حركة النهضة، تمنى بعض السودانيين تكرار التجربة في بلدهم لوقف تغول قوى الحرية والتغيير كي تنجو الدولة من فخ التجاذبات السياسية الراهنة.
وتتحاشى الانزلاق إلى دوامة من الفوضى الأمنية وتوقف نزيف الاقتصاد، فكل ما تحقق من إنجازات على أصعدة السياسة والأمن والاقتصاد يظل مرهونا بقدرة تحالف الحرية والتغيير على التفاهم مع القوى الأخرى لأجل العبور من عنق الزجاجة.
يأتي جزء من أزمة السودان من ضيق الخيارات المتاحة للتغيير، والتي تكاد تنحصر في شقين أساسيين ومتناقضين وفقا للمعطيات المتداولة بين النخبة السياسية.
الأول التسريع بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية والعمل على إنهاء المرحلة الانتقالية بصرف النظر عن الجاهزية السياسية، وهي مسألة تقف في وجهها مجموعة مصدات، أبرزها ضرورة استكمال الفترة الانتقالية حسب مقررات الوثيقة الدستورية المعلنة، فلا يزال أمامها من الوقت على الأقل نحو عامين.
من المهمّ التوصل إلى توافق عام يفسح المجال لتخطي هذا المربع، الأمر الذي لا تتوافر له الأجواء والرغبة والإرادة، وبات الطريق لهذا الخيار ملغوما بعد أن نجحت بعض القوى التي تشارك في مكونات السلطة في الحصول على مكاسب لم تحلم بها.
يتمثل الخيار الثاني في القيام بانقلاب عسكري واتخاذ إجراءات استثنائية توقف ما يمكن وصفه بـ”الفوضى السياسية”، غير أنها تفتح الباب إلى دكتاتورية جديدة من الصعب أن يقبلها المجتمع الدولي، والشعب السوداني الذي قدم تضحيات للتخلص من حكم البشير، وتضع الجيش في مواجهة عواصف لا أحد يضمن عواقبها.
أزمات السودان الاقتصادية والاجتماعية كبيرة، غير أن أزمته السياسية أعمق لأنها تتحكم في مفاصل أمور مصيرية، وعدم تحركها بالصورة المرضية يؤدي إلى استمرار الانسداد
أبدت المؤسسة العسكرية غضبها مما يجري من تطورات قادت إلى المزيد من التراشقات، وأشار رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان إلى ذلك في أكثر من موقف، كإشارة على رفض ما يدور من جدل سياسي.
كما عبّرت قوى مدنية عن ضيقها من التشرذم الذي يعتمل داخل الجيش وجبهاته، وكشف رئيس الحكومة عبدالله حمدوك عن غضبه مما وصل إليه الحال من تفسخ داخل المؤسسة العسكرية التي يراها البعض ضامنا للأمن والاستقرار، ويراها آخرون مهددا لمسيرة الحريات والديمقراطية.
إذا كانت هذه النوعية من الاتهامات تظهر من وقت إلى آخر، حتى لو حاول كل طرف مداراتها، فترك إدارة البلاد لجهة واحدة، عسكرية أو مدنية، لن يضمن الحصول على نتيجة لضبط الأوضاع ووقف التدهور على مستويات عديدة، بما فرض غيوما قاتمة على التفاؤل الذي تواتر مع الثورة، وما تلاها من تحسن في العلاقات الإقليمية والدولية انعكست في شكل مكاسب متباينة لم تتم الاستفادة منها على الوجه الأكمل.
المرحلة الانتقالية تقوم على الجمع بين الحكم العسكري والمدني وتكاد تصل إلى مفترق طرق، لأن الفجوة ليست ضيقة بينهما، فربما تتسع لحد الصدام المباشر.
كل طرف يضع على عاتق الثاني مسؤولية ما وصلت إليه البلاد من تراكم في المشكلات وما يمكن أن تصل إليه في المستقبل القريب من أزمات، ففي ظل الترهّل الحاصل لن تستطيع جهة واحدة تحمل مسؤولية إدارة الحكم ويمكن أن تدخل في نفق أشد ألما يحتاج السودان للخروج منه إلى دفع فواتير باهظة.
لا صرامة الجيش ودكتاتوريته تتناسبان مع المزاج العام في السودان ولا الفائض في الديمقراطية يمكن أن يتولى ضبط عجلة القيادة بالشكل الذي أصبح فيه الحزب الواحد منقسما على نفسه
علاوة على أن كل طرف لن يسمح بترك السلطة بسهولة والتحكم فيها بالطريقة التي يرى أنها مناسبة من وجهة نظره، فلا صرامة الجيش ودكتاتوريته تتناسبان مع المزاج العام في السودان ولا الفائض في الديمقراطية يمكن أن يتولى ضبط عجلة القيادة بالشكل الذي أصبح فيه الحزب الواحد منقسما على نفسه.
يحتاج السودان إلى تغيير جوانب معتبرة في سياسات المرحلة الانتقالية، في مقدمتها العمل بجدية على تنفيذ بنودها كاملة بلا تسويف أو مراوغات، ومعالجة المشكلات بالمزيد من المصداقية والشفافية التي تقتضيها الديمقراطية، ففي كل مشكلة تنفجر يرمي كل طرف باللوم على الآخر، أو يكتفي بالكلام الساكت كتوصيف يستخدم للتعبير عن حجم الغضب المكتوم في الصدور.
قد تفضي معادلة الكلام الساكت إلى تصاعد الأزمات ويصبح السودان دولة فاشلة في حالتي الدكتاتورية القاسية والديمقراطية المفرطة، ما يفرض عليه تعديل جانب من تصوراته الحالية كي يتمكن من تجاوز تعقيدات المرحلة الانتقالية بهدوء وسلام.