محمد أبوالفضل يكتب:
ترحيل الأزمات آفة تهدد تماسك المرحلة الانتقالية وتهدد السودان
كلما حلت السلطة الانتقالية في السودان أزمة تفجرت أخرى، وكلما سدت ثغرة أمام مشكلة وجدت نفسها تواجه حلقات لا تنتهي من المشكلات، ما جعلها ترتاح لتأجيل عدد كبير منها لتتجنب التداعيات السلبية والمحاسبة الفورية، غير أن الترحيل أوصلها لطريق مسدود، فكل الأزمات تقريبا بلا حل ومؤجلة، وهو ما كشفته أزمة شرق السودان التي تصاعدت ولم تجد حلا لدى السلطة بعد أن تراكمت روافدها القاتمة.
لاحت في الأفق أزمة الشرق الساخنة حاليا عقب تشكيل السلطة الانتقالية وازدادت حدتها مع هيمنة وفد يمثل الإقليم في المسار الذي يحمل اسمه (مسار الشرق) من دون الحصول على توافق سياسي ومجتمعي.
وانفجرت مع توقيع هذا الوفد على اتفاق جوبا للسلام في الثالث من أكتوبر الماضي، ولم تفلح كل الأصوات التي صدرت من الشرق أو في العاصمة الخرطوم في إصلاح بعض المعالم التي رآها جناح آخر تمثل خللا بمصالحهم.
وعدت الحكومة بالإصلاح أكثر من مرة وأوفدت ممثلين لها للحوار مع كبار ممثلي الإقليم وتوصلت لتفاهمات وكلها لم يتم تطبيقها على الأرض، بما ضاعف من الاحتقانات بين جناح مهم في الشرق والحكومة، حتى وصلت إلى نتيجة مخيفة من الانسداد السياسي، لا أحد يعرف آليات فك عقدها التي يمكن أن تؤدي في حالتي الحل أو الاستمرار إلى روافد يصعب التحكم في الاتجاه الذي ستدخله الفترة المقبلة.
بعض المعطيات تشير إلى أن هناك من يريدون أن تسير البلاد في طريق الحنين إلى النظام السابق أو الكفر بالثورة التي أدت إلى منعطف خطير، ولن يكون السودان الاستثناء بعد الانتكاسات التي تعرضت لها غالبية الثورات العربية التي اندلعت
وتكررت مشاهد الترحيل في العديد من الأزمات، فالمجلس التشريعي لم ير النور على الرغم من المواعيد التي ضربت لتشكيله خلال العامين الماضيين، وعملية دمج الحركات المسلحة في الجيش متعثرة، أو تخطو خطوة للأمام وأخرى للخلف.
كما أن قضية الترتيبات الأمنية في إقليم دارفور والحوار مع ما تبقى من فصائل مسلحة داخله وفي أقاليم أخرى متجمدة وهناك رضاء بشللها، الأمر نفسه يتكرر مع فلول النظام السابق، فلجنة إزالة التمكين تعاني انقساما أرخى بظلال سلبية على عملها.
ووسط كم هائل من الخلافات بين المكونين المدني والعسكري حاولت قيادات عليا إخفاءه أو تجاوزه بالقفز عليه، أصبحت الأوضاع قابلة للانفجار في أي لحظة، لأن سيارة الثورة وما انطوت عليها من طموحات وأهداف نبيلة أخذت تتحطم على وقع تراكم المشكلات، فكان الحل في تفضيل التأجيل بدلا من المواجهة الحاسمة.
ولم تسلم علاقات السودان الخارجية من الآفة نفسها، فلا أحد يعرف شكل العلاقة التي تربط الخرطوم بالولايات المتحدة، فبعد أن قطعت شوطا مهما في ملف الإرهاب وجرى رفع اسم السودان من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب تعطلت المسيرة ولم يشرع البلدان في البناء على ما تحقق من عناصر إيجابية، فالسلطة الانتقالية ارتبكت ولم تتقدم نحو تطوير العلاقات خشية تعرضها لضغوط داخلية.
واستقرت العلاقات مع روسيا عند مستوى غريب من المراوحة، صعودا أوهبوطا، بما يجعل الخطوط مفتوحة على احتمالين، أحدهما إيجابي والآخر سلبي، نتيجة عدم القدرة على الحسم في الجوانب المركزية في القضايا المشتركة، لاسيما الأمنية، فالبعض يطالب بالتطوير ويلح عليه، وهناك من يعملون على التعطيل.
ولم يسلم مشهد التطبيع مع إسرائيل من تذبذب قد لا يقل غرابة عن الموقف مع واشنطن وموسكو، فالخطوة الكبيرة التي اتخذتها الخرطوم بشأن قبولها التوقيع على اتفاقية سلام مع تل أبيب بعد خطوة التطبيع لم تتواصل معالمها في الطريق الذي جرى رسمه مبكرا، ولا أحد يعرف المدى الذي يمكن أن تصل إليه من تقدم أو تأخر.
وانتقلت الآفة إلى علاقات السودان مع المجتمع الدولي وقواه الفاعلة على المستويين الفردي والجماعي، فالعلاقة مع الأمم المتحدة نفسها دخلت نفقا غامضا بعد تقرير أمينها العام أنطونيو غوتيريش بشأن الأوضاع في دارفور والذي لم يكن مريحا للخرطوم، فالخطوات التي اتخذتها السلطة لم تحرز تقدما في الإقليم، وهو ما أزعج المنظمة الأممية وقد يضطرها لإعادة النظر في خطتها حيال توفير الأمن والاستقرار.
وصلت الحالة العامة إلى مفترق طرق، فلا أحد يثق في أن الكم الكبير من الأزمات سيتم حله، أو أن تركه لن يقود إلى تفاقم الأوضاع، خاصة أن الخلافات بين أركان السلطة داخل مجلسي السيادة والوزراء لم تعد خافية على كثيرين.
مشاهد الترحيل تكررت في العديد من الأزمات، فالمجلس التشريعي لم ير النور على الرغم من المواعيد التي ضربت لتشكيله خلال العامين الماضيين
وقد وصل التباين الحاصل داخل هياكل قوى الحرية والتغيير إلى مستوى مخيف من التجاذبات، في وقت تزداد قوى الثورة المضادة شراسة مستفيدة من التأزم الراهن، ناهيك عن استمرار السلاح بكثافة في أيدي كثير من الفصائل والمواطنين.
ويعبر اختزال الحل في ترحيل المشكلات عن عجز فاضح في إدارة المرحلة الانتقالية ويكشف عمق التناقضات بين أركانها المدنية والعسكرية، إذ يمكن فهم تأجيل بعض المشكلات المصيرية إلى حين تشكيل حكومة منتخبة تبت في القضايا الحيوية، لكن أن يتواصل الجمود بهذه الصورة الطاغية ويكاد يلمس كل مفاصل الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية فهذا يعني أن السودان مقبل على مرحلة خطيرة.
ويأتي جزء كبير من الجمود الحالي من طريقة المحاصصة التي قامت عليها السلطة الانتقالية، والحرص الزائد في مسألة الالتزام بقدر عال من توازناتها المرعبة أحيانا، حيث تمت من دون النظر إلى مدى الانسجام في مكوناتها وما نجم عن ذلك من تبعات أوصلت البلاد إلى درجة من التشاؤم لم تكن تتناسب مع التطلعات الطموحة التي عبرت عنها الثورة على نظام الرئيس السابق عمر البشير.
وتشير بعض المعطيات إلى أن هناك من يريدون أن تسير البلاد في طريق الحنين إلى النظام السابق أو الكفر بالثورة التي أدت إلى منعطف خطير، ولن يكون السودان الاستثناء بعد الانتكاسات التي تعرضت لها غالبية الثورات العربية التي اندلعت في أواخر عام 2010، فكل الدول التي شهدت أو مرت باحتجاجات وثورات عانت كثيرا ومن نجحت تجربتها كليا أو جزئيا قامت باستدارة مصالحة مع النظام السابق.
ولا يرتبط ترحيل الأزمات في السودان مباشرة بهذا الاستنتاج، لكن التطورات تفضي إلى نتيجة قريبة الشبه، الأمر الذي جعل البعض لا يستبعدون أن يفضي تأجيل حل الأزمات إلى توجيه ضربة للثورة والقوى الفاعلة فيها، وهو التفسير الذي ترتاح له بعض القوى السياسية كي تبرر لنفسها أمام المواطنين تقاعسها عن عدم معالجة أزماتهم.
يحتاج السودان إلى انتفاضة داخل السلطة الانتقالية لتتمكن من طمأنة الناس بأن الثورة لن يتم اختطافها، فبقاء الأوضاع على ما هي عليه يؤدي إلى نتائج سيئة، وفي بلد في حجم السودان وتركيبته الجغرافية والعرقية وامتداداته الجغرافية يجب أن توجد معالجة فورية للأزمات، لأن المسكنات التي لجأ إليها سابقا قادت لسلخ جزء في الجنوب وغير مستبعد أن يخيم الشبح ذاته على أجزاء أخرى جراء الترحيل المتواصل للأزمات.