علي الصراف يكتب:
ما غاب وما حضر في لقاء تبون – بلينكن: حرائق وانفصاليون وغاز وأوليغارشية
الأوليغارشيا المحلية التي شكا منها الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون لأنها تتواطأ مع الأوليغارشيا الروسية والمافيا الإيطالية، هي التي تتحكم به على أي حال.
واضح تماما أنه يعرفها، كما يعرف سطوتها. ولكن الأوضح، هو أنه لا يقدر عليها، وأنها هي التي ترسم سياساته الخارجية، وتحدد لها السقوف.
وهي نفسها على الأرجح التي قامت بتسريب محادثاته مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الذي زار الجزائر لبضع ساعات، وفر منها يائسا.
ولئن كان هناك من يتهم المسؤولين الأميركيين الذين رافقوا بلينكن بتسريب المحادثة، فهذه تنطوي على دلالة أكبر. لتكون بذلك تعبيرا صريحا، غير مسبوق، عن الاستياء.
المحادثة انتشرت كما النار في الهشيم، لفرط ما انطوت عليه من مفاجآت غير سارة عن طبيعة أوضاع الجزائر، والدور الذي تؤديه الأوليغارشيا المحلية في تعطيل خياراته.
الغائب في لقاء الرئيس بالوزير لافت بنفس مستوى الحاضر. على مدى 27 دقيقة، لم يذكر الرئيس تبون شيئا عن علاقات بلاده مع المغرب. لم يذكر شيئا عن أسباب القطيعة، لا عن الحرائق، ولا عن مزاعم دعم الحركات الانفصالية ولا عن الدوافع التي أدت إلى وقف إمدادات الغاز إلى أوروبا عبر المغرب وإغلاق الأجواء الجزائرية وقطع الرحلات الجوية بينهما.
وعلى الرغم من أن هذه المسائل على صلة مباشرة بجولة بلينكن التي قادته إلى المغرب، إلا أن الرئيس تبون تجاهلها، لأنه يعرف أن أوليغارشيته هي التي افتعلتها، حتى لم يعد من المناسب ذكرها، ولا ذكر الغاز الذي يمر إلى إسبانيا رغم أنه كان يوفر عشرات المليارات من الأمتار المكعبة التي يمكنها أن تساعد القارة الأوروبية على التحرر من عبوديتها للغاز الروسي.
بلينكن غادر الجزائر خائبا. كان ذلك هو المطلوب. قيود الجزائر على نفسها لا تتيح الفرصة لأي نجاح قد يؤدي إلى فتح ثغرة في الصندوق
بل وثمة ما يبرر الاعتقاد بأن وقف خط الغاز عبر المغرب كان ترتيبا مسبقا مع موسكو، مثل الترتيب الذي جعل خزانات الغاز الروسية في ألمانيا شبه فارغة على مدار عدة أشهر قبل الغزو.
والبحث عن ذرائع أمر سهل. والمبالغة فيها، والتصعيد عليها أمر أسهل.
فجأة اكتشفت الجزائر أنها لا تملك الكثير مما يمكن أن تقدمه لأوروبا، لكي يحل محل الغاز الروسي.
وما من حاجة إلى أي تكهنات. فالعلاقات الوطيدة مع روسيا لا تسمح بأن تكون الجزائر شريكا حيويا لأوروبا. والكميات المحدودة التي اختارت أن تضيفها إلى خط الغاز الواصل إلى إيطاليا، كانت لا أكثر من استجابة جزئية لضغوط مافيا النفط الإيطالية من جهة، ومحاولة لذر الرماد في العيون الأميركية من جهة أخرى، وذلك لأجل القول: إننا نحاول، ولكن للأسف لا يمكن فعل المزيد.
وهذا غير صحيح. تملك الجزائر أن تضخ الكثير، ليس من احتياطاتها فحسب، ولكن من تطوير قدرات حقولها القائمة.
الذين يتحكمون بإنتاج هذه الحقول، صاروا يشكون من أن حقول الغاز الجزائرية ذات عمر محدود، وأن الاستكشافات الجديدة تحتاج إلى عدة سنوات لكي يمكن أن تصبح ذات قيمة تجارية.
شكوى الفقر لم تقنع أحدا. ليس على الولايات المتحدة التي تعرف ماذا يمكن للجزائر أن تفعل. وكان الأكثر إثارة لمشاعر خيبة الأمل، هو أن المسافة بين الجزائر والضفة الأوروبية أقرب من رمية عصا.
تسريب المحادثات مع بلينكن، لو أنه تم من دائرته الداخلية، فإنه أراد توصيل رسالة إلى الرئيس تبون تقول له إنه محاط ومراقب، وإن شكواه من الأوليغارشيا المحلية وصلت إلى مسامعها.
عمليا، فإن علاقات المافيا هي ما يصنع موقف الجزائر الدولي والإقليمي في آن معا. وبرغم أن الرئيس تبون ليس طرفا خارج الدائرة الداخلية لأوليغارشيته، إلا أنه يعرف حدوده، فقال لضيفه في النهاية إنه لا يملك الكثير ليقدمه.
هذا وضع مؤسف. ولكنه يكشف لماذا ظلت أقلية النفوذ والفساد هي القوة الحاكمة. ولماذا عجز الحراك الشعبي عن تحقيق التغيير المنشود. ولماذا تفقر الجزائر، وتعجز عن انتهاز الفرصة لتغذية عائداتها من النفط والغاز لتمويل مشاريع الاستثمار والتنمية المحلية. بل ولماذا تبقى احتياطاتها ومخزوناتها منخفضة باستمرار. ثمة قفل هو الذي يُغلق عليها الفرص والإمكانيات. هذا القفل تملك تلك الأقلية مفتاحه، لتجعل البلاد ترزح تحت أعباء فشل تنموي دائم.
تسريب المحادثات مع بلينكن، لو أنه تم من دائرته الداخلية، فإنه أراد توصيل رسالة إلى الرئيس تبون تقول له إنه محاط ومراقب، وإن شكواه من الأوليغارشيا المحلية وصلت إلى مسامعها
الجيش وطغمة النافذين من قيادات جبهة التحرير الوطني، هي القوة الوحيدة التي يمكنها أن تقرر كيف تسير الجزائر، ومع مَنْ تقيم علاقات. وكيف تمضي الصفقات التجارية مع الخارج. ولماذا تتواصل سياسات العداء مع المغرب، ولو بذرائع واهية أو وهمية. حتى أنها لا تصلح، لهذا السبب، أن تكون موضوعا للحوار في واحدة من أهم الزيارات التي قام بها وزير أميركي إلى الجزائر.
الانكفاء الجزائري على الذات، هو نفسه صناعة من صناعات تلك الطغمة التي ظلت تمنع الجزائريين من الانفتاح على محيطهم الإقليمي والأوروبي، حتى ليكاد الملايين يشعرون أنهم واقعون تحت نوع من الحجر الصحي خوفا عليهم من التلوث بعلاقات اجتماعية ومفاهيم سياسية وظروف اقتصادية لا تتناسب مع شروط البقاء في بيت الطاعة.
وهو انكفاء متطرف حيال موقع بلد يمكنه أن يلعب دورا فعالا في العديد من الملفات الإقليمية، وأن يجني منها مكاسب جمة.
ليبيا مثال ساطع. وتونس مثال آخر. والشراكة الاقتصادية مع مصر من جهة، والمغرب من جهة أخرى، مثال ثالث.
نحن هنا، إنما نتحدث عن قوة إقليمية تمتلك موارد وإمكانيات هائلة، وبوسعها أن تصبح لاعبا قادرا على أن يصنع معادلات جديدة، إلا أنها تختار أن تتصرف كبلد معاق.
كل أوليغارشيات الدنيا تعمل في الخفاء وفي العلن، تحت ظل النظام، لتخدمه وتخدم تطلعاته ومصالحه الخارجية.
الأوليغارشيا الجزائرية هي النظام. وبدلا من أن يتكفل الرئيس بتسييرها، فإنها هي التي تسيّره، وهي التي تفرض عليه حروبها الوهمية، بل وما هي حدود الإمكانيات المتاحة له.
وحيث أنها هي التي تملك القفل والمفتاح، فإن الجزائريين القابعين في بيت الطاعة يعملون بمقدار، ويسكنون بمقدار، ويأكلون بمقدار. والبلد برمته يغرق في حفرة سياسية لا مخرج منها. ولهذا السبب، فليس ثمة مَنْ يتحدث عن آفاق تأخذ الاقتصاد الجزائري خارج الصندوق القائم.
يتظاهر المتظاهرون، أو تجرى انتخابات فتقاطعها الأغلبية، أو تندلع حرائق، أو يكون هناك رئيس جديد بدلا من آخر، أو يعلو النفور بين القيادات الوطنية التي نأت بنفسها عن السلطة، فإن الكل تحت الحجر الصحي.
بلينكن غادر الجزائر خائبا. كان ذلك هو المطلوب. قيود الجزائر على نفسها لا تتيح الفرصة لأي نجاح قد يؤدي إلى فتح ثغرة في الصندوق.