محمد أبوالفضل يكتب:
فرص دول الاعتدال لتقويض التصعيد في غزة
كشف تأييد عدد من الدول العربية المعروفة بالاعتدال في المنطقة لفحوى البيان الثلاثي الذي وقعه زعماء الولايات المتحدة ومصر وقطر أخيرا لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، عن رغبة كبيرة نحو جلب الأمن والاستقرار ووضع نهاية سريعة للحرب الانتقامية التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين، والتي باتت مفتوحة على سيناريو غامض إذا انخرطت فيها إيران مباشرة، وحثت أذرعها الإقليمية على مشاركتها في توجيه ضربة متزامنة وقوية ضد إسرائيل.
كأن إسرائيل أرادت أن تضاعف حجم صلفها، فقامت السبت، أي بعد يومين من صدور البيان الثلاثي، بعملية عسكرية في مدرسة التابعين التي تؤوي آلاف النازحين، راح ضحيتها العشرات من المواطنين، في تحد سافر لجبهات الممانعة التي تتحداها، وفي مقدمتها إيران التي بدت مرتبكة في خطتها للانتقام من إسرائيل، ردا على قيامها باغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية في طهران نهاية يوليو الماضي.
أكدت قوات الاحتلال بقصفها مدرسة التابعين في غزة المضي قدما في حلمها بإنهاء دور حماس والمقاومة عموما، والتمهيد لتصفية القضية الفلسطينية من مرتكزاتها الرئيسية، في الداخل والخارج، وقبل الوصول إلى هذه المرحلة استغلت بعض دول الاعتدال تعنت إسرائيل لكشف ما تتبناه من مواقف مزدوجة، فهي أكدت استعدادها للعودة إلى استئناف المفاوضات الخميس المقبل، وقامت بعملية تنتهك فيها كل القيم الإنسانية، ما يجعلها تنأى عمليا عن الانخراط في مفاوضات تفضي إلى نتائج ملموسة قريبا وتحرج من يدعمون تل أبيب، حيث تصر على التمسك بشروط تمكنها من تحقيق أهدافها كاملة، أبرزها إنهاء وجود حماس ودورها العسكري والسياسي في غزة.
لم تتحرك دول وقوى الممانعة بالشكل اللائق حيال الغطرسة التي مارستها ولا تزال إسرائيل في غزة والضفة الغربية، وخارجهما في لبنان وإيران والعراق واليمن وسوريا، وربما منحتها بعض العمليات الرمزية والهتافات الإعلامية الصاخبة مبررات للمزيد من التقتيل في غزة والسعي لإنهاء دور المقاومة المضرة بمصالح إسرائيل في المنطقة، لكن المقاومة بدأت تعاني من ارتباك في التعامل مع الآلة العسكرية التي تعمل بها قوت الاحتلال، والمدعومة من الولايات المتحدة بكثافة.
يشير العجز الفاضح في رد جبهات المقاومة بقوة على إسرائيل إلى اتساع نطاق الهوة القتالية بين الجانبين، ويفرض أن تقوم دول الاعتدال بتبني مقاربة توقف النزيف السياسي الناجم عن الشد والجذب مع قوى الممانعة، وتستقطب قوى إقليمية ودولية مؤيدة لعملية تسوية تقود إلى وضع حد للتدهور الحاصل في القضية الفلسطينية، حيث تستثمر القوى المتطرفة داخل إسرائيل في الاستنفار المضاد بلا فعل يكبدهم خسائر فادحة، وتحض هذه القوى حكومتها المتشددة على زيادة جرعة القتل والهدم واغتصاب الأراضي في الضفة الغربية.
مطلوب مقاربة سياسية تلتف حولها قوى دولية عديدة من أجل وضع حد للمأساة الفلسطينية، ولا يعني انتصار إسرائيل عسكريا أنها قادرة على توفير الأمن لشعبها. كما أن تراجع حماس وتقليص قدراتها العسكرية لن يردع دفاع الفلسطينيين عن حقوقهم المشروعة، ولن يصمت صوت الدول المعتدلة ويجبرها على دعم اتفاقيات إبراهيمية أو غيرها، طالما استمر منغص القضية الأم والحلول المعروضة مبتورة.
تحتاج دول الاعتدال أن تستغل النتائج السلبية التي تمخضت عنها حرب غزة لكشف انعدام فعل جبهات التصعيد والمبالغات، وخطورة خطابها المعلن الذي لا يتسق مع مواقفها الحقيقية، ولم تؤد الهتافات الصاخبة والوعود الجوفاء إلى تغيير في مسار القضية الفلسطينية، بل منحت فرصة لتوظيف تصوراتهم المبالغ فيها والرامية للتخلص من إسرائيل ضد مصالح الشعب الفلسطيني.
زادت على مدى سنوات طويلة دول عدة في مواقفها المتصلبة، مثل إيران وسوريا والجزائر وقطر، وأخيرا تركيا، ولم يقدّم أحد منها مساعدات نوعية تمكن الفلسطينيين من التصدي لصلف المستوطنين وتغول المتشددين، ووقف انتهاكات قوات الاحتلال المنتشرة بكثافة في الضفة الغربية، ثم تركت غزة مكشوفة بعد عملية طوفان الأقصى، ولم تجد مقاومتها عونا يساعدها على الصمود والصبر ومواصلة التصدي.
من الضروري أن تخصص دول الاعتدال حيزا للتذكير بدبلوماسية الهتافات عبر وسائل الإعلام، وتتحمل هذه الدبلوماسية جزءا كبيرا من المأزق الذي دخله قطاع غزة والمحنة التي يواجهها سكانه، فقد جرى النفخ في المكونات المادية للمقاومة وتضخيم قدرتها على وقف زحف قوات الاحتلال وتغولها في غزة.
وبعد أكثر من عشرة أشهر تهدمت السرديات ومعها غالبية مناطق القطاع، وبدأت تتلاشى الحياة فيه تماما، وربما تكون عملية طوفان الأقصى أعادت الزخم السياسي للقضية الفلسطينية ووضعتها مرة أخرى على طاولة المجتمع الدولي، إلا أن عامل الوقت بدأ يقوض هذه الأهمية الحيوية، إذ تواصل إسرائيل حربها بشراسة، وتعمل على تنفيذ أجندة معدة سلفا، وترفض حماس تقديم تنازلات لتمهيد الطريق نحو التهدئة.
تستطيع دول الاعتدال أن تضخ الدماء في البيان الثلاثي الذي أصدره زعماء الولايات المتحدة ومصر وقطر، أو تتبنى ترتيبات بديلة تؤدي إلى التهدئة، ومن المهم أن تقوم بتحركات تقوّض التمادي في استمرار التصعيد داخل غزة، لأن الخطوة المقبلة التي يمكن أن تقوم بها إسرائيل هي فتح المجال للعودة إلى سيناريو التهجير إلى مصر والأردن، والمعاناة التي يواجهها سكان القطاع والضفة والتقتيل الذي تقوم به قوات الاحتلال لن يترك أمام الكثيرين فرصة للمزيد من التحمل.
فشلت رهانات من عوّلوا على محور المقاومة، وعليهم أن يتركوا فرصة لدول الاعتدال لتتحرك بواقعية قبل فوات الأوان. الخطة التي تتعامل بها إسرائيل وتجد دعما لا محدودا من قبل الولايات المتحدة لن تقود إلى استقرار في منطقة تحيط بها أزمات من جوانب مختلفة، يمكن أن تفجر صراعات أشد ضراوة، ومن الصعوبة أن تعيش دولها الصغرى أو الكبرى في هدوء.
لم يعد البعد الجغرافي عن مركز الصراعات (فلسطين) محددا فاصلا في النجاة، فالصواريخ والمسيّرات التي تطلق من على بعد ألفي كيلومتر من اليمن، والعكس، تؤكد أن الكل في الهم شرق، وهذا لا يعني أن مصالح الغرب بعيدة عن الأذى، ما يدفع الدول المعتدلة إلى الالتفاف حول رؤية واضحة تضع حدا للتصعيد قبل أن ينفجر بركان الغضب على نطاق أوسع، إلا إذا كان هو الغرض من مواصلة تجاوزات إسرائيل، وتحقيق أهداف رئيس حكومتها فقط، والتي يمكن أن تحرقه ورفاقه.
لا تزال دول الاعتدال قادرة على نزع فتيل صراع ساخن، واستخدام حكمتها السياسية لمنع انفجار لغم قاب قوسين أو أدنى من حدوثه، والرهان مفتوح على أمل يمكن توفيره للشعب الفلسطيني، لأن انعدامه والبقاء في خانة اليأس لن يمنح إسرائيل راحة، أو يجعل بنيامين نتنياهو يهنأ بما حققه من محو لكل مظاهر الحياة البسيطة في قطاع غزة.