فاروق يوسف يكتب:

المشي في حقول الألغام

يمكنك أن تفجر أزمة اجتماعية وثقافية لا يمكن التنبؤ بعمق تداعياتها السيئة عن طريق ابداء رأيك في "صحيح البخاري" مثلا.

الكتاب الذي لم يؤلف اليوم بل مضى على تأليفه مئات السنين لا يُمكن أن يُمس. لا يزال يمارس سلطة مطلقة لا تنفع في تفكيك عُراها محاولات البحث التاريخي المسنودة بأدلة مقنعة عقليا.

ولكن ذلك الكتاب كان قد أدخل في دائرة الإيمان وهو ما يعني أنه صار يمارس سطوته خارج دائرة التفكير العقلاني. غير أن ذلك الكتاب ليس اللغم الوحيد الذي يمكن أن ينفجر إذا ما اقترب المرء منه. هناك مرويات كثيرة ألحقت بـ"الدين" وما هي منه ولا يملك الكثير منها الدليل التاريخي الذي يؤكد وقوعه.

حكايات كانت نتاج مواهب خارقة في أدب الخيال الذي سبق أدب الخيال العلمي "الأوروبي" بمئات السنين هي المصدر لتلك المرويات التي حولها رجال الدين إلى وسائل يتم من خلالها جذب العامة والاستيلاء على عقولهم، ترغيبا وترهيبا.

وقد يكون كتاب الإسراء والمعراج المنسوب إلى ابن عباس هو الفاتحة التي مهدت لقيام بنية حكائية غيبية تنافس بنية كتاب ألف ليلة وليلة في طرق افلاتها من الحقيقة وفي اعتمادها على الخفاء باعتباره موقعا لطاقة لا يمكن تصديقها وبالقوة نفسها لا يمكن تكذيبها في عالم لم يصله العلم.

في الخاتمة سيُقال لك "والعلم لله وحده".

كل المعلومات التي تضمنتها كتب التراث العربي ــ الإسلامي لم يجر تمحيصها وتدقيقها إلا بحذر شديد. كما لو أن تلك الكتب لم تكن كتبا ألفها بشر مثلنا، يمكن أن يرتكبوا الخطأ أو أن يقعوا في السهو والنسيان أو أن يكونوا أصلا مجرد هواة مازحين قرروا أن يلهوا ويشطحوا ويبالغوا عن طريق الكتابة.

نحن اليوم نقف أمام ركام هائل من المرويات التي قامت على أساسها فرقة بين المسلمين حسب انتماءاتهم المذهبية من غير أن يكون مسموحا للخبراء الاقتراب من تلك المرويات والتأكد من أن المعلومات التي بنيت عليها كانت صحيحة تاريخيا أم أنها لم تكن كذلك.

هناك يقين مطلق من أن كل المرويات المذهبية لا يخالطها شيء من الشك وهي صحيحة بالرغم من أن العقل العلمي والتاريخي لا يقرها.

في مثل تلك الحالة فإن مجتمعاتنا لا يمكن أن تغادر الموقع الذي تسيطر فيه الخرافة عليها. وعلى هذا الأساس يمكن فهم مسألة التراجع الذي شهدته مجتمعات كانت تُحسب على المجتمعات الحداثوية مثل المجتمع المصري واللبناني والعراقي والسوري.

كانت الحداثة بالنسبة لتلك المجتمعات عبارة عن تقنيات مستوردة.  

سيكون ممكنا استعمال تلك التقنيات في ظل الاستبداد الذي تمارسه المرويات الدينية. بل يمكن نشر تلك المرويات عن طريق تلك التقنيات بطريقة ذكية، بما يضع العلم في خدمة الخرافة.   

هُزمت حداثة تلك المجتمعات في ظل عدم قدرتها على الصمود أمام الخطاب الديني المسلح. هذا ما يبدو على السطح غير أن الحقيقة تؤكد أن تلك الحداثة لم تكن مبنية على أساس مساءلة ما قبلها. كانت حداثة قشرية سرعان ما تراجعت مع أول ضربة وجهت إليها.

لقد ضيع العرب زمنا، كان في إمكانهم فيه أن يفككوا الألغام التي قُدر لهم أن يمشوا في حقولها. وهي ألغام تم تصنيعها في أزمنة ظلامية، لم يكن فيها العلم قد أشرق بشمسه على دنيا العرب.

عبر العقود الماضية سعى مفكرون عرب إلى أن يقهروا الماضي بأدوات بحث معاصرة، غير أن مسعاهم جوبه بموقف غبي من قبل النظام السياسي الذي لم يكن يجرؤ على مواجهة التراث الذي كانت صيانته جزءا من شعبيته المفترضة.  وهي شعبية تبين في ما بعد أنها رصيد للإسلاميين المتشددين الذين استفادوا من التضييق على الفكر الحر.

غرق العالم العربي في الخرافة بالرغم من أنه يملك مقومات الانتماء إلى الحضارة العلمية الحديثة. لا لشيء إلا لأنه لم يراجع ماضيه بكل مروياته الملغومة.